عبد الوهّاب يُغنّي شوقي (حكاياتٌ وأشعار وأنغام)/ د. عصام الحوراني

يُمكن أن نصف الغناء، بأنّه تنغيم الصوت بوساطة الترجيع، أي مع إدارة الصّوت في الحلق وجوانبه، وتلاعبه فيه بمشاركة اللِّسان والأسنان والشِّفاه والهواء وغيرها. والغناء قديم عند العرب، ولعلّ أقدم فنون الغناء عندهم كان الحِداء. كان الحجاز على اتصال وثيق بالحواضر المحيطة، ولا سيّما بمملكتَيْ الغساسنة والمناذرة، اللّتين كانتا ترتبطان ثقافيًّا وفنِّيًّا بدولتَي الرّوم والفرس. كانت الخمر والمرأة والغناء، من الملذّات المحبَّبة إلى قلب العربيّ البدويّ في الجاهليّة. وكان للقبائل أغانيها الخاصّة، كما كانت الموسيقى عنصرًا مهمًّا في حياتهم الاجتماعيّة والدّينيّة، وكانت تُعزَف على آلات موسيقيّة مستقدَمة مِن بلاد فارس أو مِن عند الرّوم. فكان المغنّون والمغنِّيات يُواكِبون الألحان الموسيقيّة، ويتغنّون بقصائد متنوِّعة لشعراء تلك الأيّام، ومع غناء هذه القصائد كان الشِّعر ينتقل بسهولة وبسرعة بين الناس على اختلاف قبائلهم في أرجاء الصّحراء الواسعة. كانت الاحتفالات تأخذ طابعًا مميَّزًا في الأسواق الشَّعبيّة مثال سوق عكاظ وسوق المربد وسواهما. وكانت تقام في الجاهليّة احتفالات الحجّ السنويّة إلى الكعبة، التي كان يُرافقها الغناء على اختلاف أنواعه، بحسب تنوّع القبائل.
وقد ازدهر الغناء في العصور الإسلاميّة، ودخل قصور الخلفاء والولاة والأمراء، وعرفت الحجاز عددًا كبيرًا مِن المغنّين والمغنِّيات، الّذين راحوا يتنقّلون في أنحاء الأمبراطوريّة العربيّة، ووصلوا إلى الأندلس وكان مِن أشهرهم زرياب.  
ننتقل بعد هذا الاستهلال إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مع أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي أحبّ الغناء منذ مطلع شبابه، وقدره إلى حدٍّ بعيد، وكان يستمع إليه بشغف بالغ. قال في حفل افتتاح نادي الموسيقى الشّرقي سنة 1929:
والفـنُّ رَيْحانُ الملوكِ، ورُبَّما خَلَدوا على  جَنباتِـهِ أَسْماءَ
لولا أيـاديـهِ علـى أبنائِنـا لم نُلْفَ أَمْجَـدَ أُمّـةٍ آبـاءَ
لولا ابتسامُ الفنِّ فيمـا حولَـهُ ظلّ الوجودُ جَهامةً وجفـاءَ
جرِّدْ مِنَ الفنِّ الحياةَ وما حوَتْ     تَجدِ الحياةَ مِن الجمالِ خلاءَ
كان الشّاعر يهتمّ بالمغنّين إلى حدٍّ بعيد، ويقدرهم ويُجلّ ما يُقدِّمونه مِن أغانِ وفنون موسيقيّة متنوِّعة. وقد نظم شوقي قصائد كثيرة في رثاء عدد مِن المغنّين في زمانه. نذكر مرثاته في "عبدُه الحمولي" الّذي رحل سنة 1902، فيقول فيه مِن قصيدة طويلة:
يُخرِجُ المالِكينَ مِن حِشْمَةِ المُلْـ كِ ويٌنسي الوَقورَ ذكرَ وقـارِه
ربَّ ليلٍ أغـارَ فيهِ القُـمارى وأثـارَ الحِسانَ مِـن أقْمـارِه
بِصَـبًا يُذَكِّرُ الرِّياضَ صَـباهُ وحِجـازٍ أَرَقّ مِـن أسحـارِه
وغِـناءٍ يُـدارُ لحْـنًا فَلـحْنًا كحديثِ  النّـديمِ  أو كَعُـقارِه
وأنيـنٍ لو أنّـهُ مِن مَشـوقٍ      عرَفَ السّامِعونَ  موضِعَ نارِه
زَفَراتٌ كأنّـها بَـثُّ  قيْـسٍ في معاني الهَوى  وفي أخبارِه
يسمع اللّيلُ مِنهُ في الفجرِ يا لَيْـ لُ فيُصغي مستمهِلاً في فرارِه 

وقال في رثاء المغنّي المشهور صالح عبد الحيّ المتوفّي سنة 1912:
طوى البساط وجفّتِ الأقداحُ وغدتْ عواطلَ  بعدكَ الأفراحُ
وانفضّ نادٍ بالشّآمِ وسـامرٌ في مصرَ أنتَ هَزارُهُ الصدّاحُ

توفِّيَ الشيخ سلامة حجازي عام 1917، وقد أُقيمَت له حفلة تذكاريّة سنة 1931، أنشد شوقي فيها قصيدة عصماء استهلّها:
يا ثرى النّيلِ في نواحيكَ طيرٌ كان دُنيا وكانَ فرحةَ جيلِ

أمّا سيِّد درويش، الموسيقار الكبير المجدِّد والمطوِّر للموسيقى العربيّة، فقد خصّه شوقي بقصيدة ألقاها في حفلة أُقيمت لذكراه سنة 1931، قال فيها:
بلبـلٌ إسكنـدريٌّ  أيْـكُــهُ ليسَ في الأرضِ ولكِنْ في السّماءْ
أيُّهـا الدَّرويشُ قُمْ بُثَّ الجوى واشـرَحِ الحبَّ  وناجِ  الشُّهـداءْ
اِضرِبِ العـودَ  تَـفُهْ أَوتارُهُ بالَّذي تهوى  وتنْطِقْ مـا تشـاءْ
حرِّكِ النّايَ  ونُحْ  في غابِـهِ وتنفَّـسْ في الثُّقـوبِ الصُّعـداءْ
إلى أن يختم القصيدة بذكر خليفته في حمل لواء التجديد في الموسيقى العربيّة، وهو ابنه الرّوحيّ محمّد عبد الوهّاب، فيقول:
إنّ في مُلـكِ فـؤادٍ  بلبُـلاً لـم يُتَـحْ  أَمثالُـهُ لِلخُلـفـاءْ
ناحِلٌ كالكُرةِ الصُّغرى سرى صوتُهُ في كُرةِ الأرضِ الفضاءْ
يستحي أن يهتِفَ الفـنُّ بِـهِ وجمـالُ  العَبقرِيّـاتِ الحيـاءْ

وكان شوقي، إلى جانب شغفه بالموسيقى الشرقيّة، من هواة الموسيقى الأوروبيّة الكلاسيكيّة، وقد تأثَّر بكبار الموسيقيّين العالميّين، ومال إلى هذا النوع مِن الموسيقى بشكل خاص منذ عهد السنوات التي أمضاها في فرنسا يوم كان طالبًا. نذكر من الّذين تأثّر فيهم شوقي الموسيقار الإيطاليّ المشهور فردي (1813 -1901)، وهو صاحب تآليف موسيقيّة مشهورة،  ولا سيّما الأوبِّرا، ومنها: "ريغوليتو"، و"لاترافيانا"، و"عايدة". وعندما توفِّي هذا الموسيقار رثاه شوقي بقصيدة جاء فيها:
يكاد إذا هو غنّى الورى بقافيـةٍ  ينطـقُ القافِيَـة
وكَمْ آيةٍ في الأغاني لهُ هِيَ الشَّمسُ ليسَ لها ثانيَة

شوقي وعبد الوهّاب، البدايات
وُلِد محمّد عبد الوهّاب، ابن المؤذِّن والمُقرِئ الشيخ محمّد أبو عيسى، في حي باب الشعريّة في القاهرة في نحو سنة 1902، أدخله والده كتّاب جامع سيدي شعراني، وفي نيّته أن يدرس القرآن ويحفظ الآيات، ويتقن التجويد، مِن أجل أن يخلفه في وظيفته في المستقبل. لكنّ الفتى الصّغير شُغِف بالغناء بدل القراءة والتجويد، وتعلّق بالاستماع إلى عدد من المغنّين في ذلك الزّمان وعلى رأسهم الشيخ سلامة حجازي، وعبد الحَي حِلمي، وصالح عبد الحَي، وكانوا يُحيون حفلات الموائد والأفراح في تلك المنطقة. كان يترك مدرسته خِفية ويتبع هؤلاء المغنّين، إلى أن استطاع أن ينال موافقة فوزي الجزايرلي صاحب فرقة مسرحيّة بمنطقة الحسين، فقبله أن يُغنّيَ أغاني الشيخ سلامة حجازي بين فصول المسرحيّة، لقاء خمسة قروش عن كلّ ليلة. صار يُغّنّي متخفِّيًا باسم "محمّد البغدادي" لِئلا يعرف والده بالأمر، الذي كان يُعارض بشدّة أن يُصبح ابنه مغنِّيًا. لكنّ الوالد علم بالأمر وأعاده بالقوّة إلى المدرسة. بيد أنّ الفتى، لم يستطِع البقاء خارج أجواء الغناء، فهرب من المدرسة والتحق بسيرك في دمنهور، يُغنّي فيه. لكنّه اختلف مع أصحاب السيرك، لرفضه القيام بأيّ عمل آخر غير الغناء، فطُرِد مِن وظيفته وعاد إلى بيته في حي باب الشعرانيّة خائبًا.
وبعد توسّط عدد من الأصدقاء لدى أسرته وافقوا أخيرًا، وسمحوا له، وهو الولد الصّغير، أن يُغنِّيَ للشيخ سلامة حجازي في فرقة مسرحيّة لعبد الرّحمن رشدي (المحامي) مقابل ثلاثة جنيْهات في الشّهر، وكانت هذه الفرقة تعرض مسرحيّتها على مسرح برنتانيا. في إحدى اللّيالي كان أمير الشعراء شوقي يحضر المسرحيّة، وقد هاله أن يرى ولدًا صغيرًا يُغنّي في مثل هذا الوقت من اللّيل، ذلك بنظره، يُسيء إلى صحّته الجسديّة والفنّيّة، فطلب حالاً مِن حاكم مدينة القاهرة "الحكمندار" الإنكليزي أن يُصدر أمرَه بمنع الولد محمّد عبد الوهّاب مِن الغناء. لم يستطِع الحاكم إصدار مثل هذا الأمر لأنّه لم يوجد ثمّة مِن قانون في القاهرة يمنع الأولاد مِن الغناء، ولكنه أخذ تعهّدًا مِن الفرقة بتوقيفه عن العمل.
التحق الفتى الناشئ عبد الوهّاب بعد ذلك بنادي الموسيقى الشّرقيّ، حيث تعلّم العزف على العود على يد الموسيقار محمّد القصبجي، كذلك درس فنّ الموشّحات الإندلسيّة. راح في تلك الفترة يُدرِّس الأناشيد للتلاميذ في مدرسة "الخازندار". تركها بعد فترة والتحق بفرقة "علي الكسّار" حيث عمل منشِدًا في الكورال. ترك أيضًا هذه الفرقة والتحق بفرقة الرّيحاني، وكان ذلك في عام 1921، فسافر مع هذه الفرقة إلى بلاد الشّام. هكذا، نراه دائم الحركة والتبديل، فهو يلتحق بفرقة فنِّيّة ليتركها بعد وقت بسيط ويلتحق بالأخرى. ترك فرقة الرّيحاني ليدرس الموسيقى من جديد ويُشارك في الوقت نفسه في الحفلات الغنائيّة التي كانت تُقام في القاهرة. في ذلك الوقت قابل سيِّد درويش الّذي استمع إلى صوته فأُعجِب به، وعرض عليه العمل معه في فرقته الغنائيّة لقاء مبلغ 15 جنيهًا في الشّهر. كذلك اشترك أيضًا في روايتَي سيّد درويش: "البروكّة" و"شهرزاد". لقد أعجب عبد الوهّاب بسيِّد درويش كثيرًا، وظلّ يُلازمه في حفلاته ولقاءاته مع الفنّانين حتّى رحيل سيّد درويش في 15 أيلول سنة 1923.
اُقيم في سنة 1924 حفل في كازينو "سان استيفانو" بالاسكندريّة أحياه المطرب النّاشئ محمّد عبد الوهّاب، وقد حضره شخصيّات سياسيّة وأدبيّة وكان بينهم أحمد شوقي، الّذي أُعجب، هذه المرّة، بعبد الوهّاب وطلب لقاءه بعد انتهاء الاحتفال. تمّ اللّقاء، وقد ذكّره عبد الوهّاب باللّيلة التي طلب شوقي فيها من الحكمندار بتوقيفه عن الغناء، فأجابه شوقي أنّ ذلك كان خوفًا على صحّة طفلٍ كان ما زال صغيرًا يومذاك. طلب منه شوقي أن يزوره في مكتبه في القاهرة، ومنذ ذلك اللّقاء بدأت حكاية عبد الوهّاب مع أمير الشّعراء. لقد أصبح عبد الوهّاب يُلازم هذا الشّاعر الكبير، وصار شوقي بمكانة الأب الرّوحيّ له.  أحضر له شوقي مدرِّسًا يعلِّمه اللّغة الفرنسيّة، وكانت لغة الطبقات الرّاقية في مصر يومذاك. كان شوقي يتدخّل تقريبًا في تفاصيل حياة عبد الوهّاب كلّها، فعلّمه كيفيّة التحدّث مع النّاس وطريقة الكلام والنطق، وأيضًا كان يُنبِّهه إلى طريقة الأكل والشرب وما إلى ذلك. قدّمه إلى كبار رجال السياسة والأدب، وعرّفه إليهم، من أمثال أحمد ماهر باشا وسعد زغلول ومحمود فهمي النقراشي. وكذلك عرّفه إلى طه حسين وعبّاس محمود العقّاد والمازني وغيرهم. كان يصطحبه معه في سفراته إلى فرنسا ولبنان وسوريا. لقد أفرد شوقي له في منزله "كرمة ابن هانئ" جناحًا خاصّا، يكون فيه قريبًا من شوقي، يقرأ في هذا الركن الهادئ الأشعار والأغاني ويُلحّنها. يذكر عبد الوهّاب في معرض حديثه عن مولد ألحانه، أنّ شوقي لم يكن يُبيح له أن يُذيعَ لحنًا قبل أن يُراجعه فيه مرارًا، من باب الرِّعاية. وكانت لشوقي قدرة فائقة على تمييز الأصوات والألحان وتذوّقها. لم ينسَ عبد الوهّاب تأثير شوقي في حياته وفي فنّه، وكان دائمّا، بعد رحيل شوقي، يذكر فضله الكبير عليه ويُردِّد ذلك في خلال أحاديثه. يذكر جورج ابراهيم الخوري في كتابه "حكايتي مع النجوم"، ص 84: أنّ عبد الوهّاب قال يومًا "علّمني شوقي حبّ الحياة... وعلّمني التعاطف مع الطبيعة والنّاس... وعلّمني الطموح والإشراق وعزّة النفس... إنّ شوقي لم يعرف الحقد أو التطيّر أو المرارة في علاقاته بالآخرين... كان عفيف اللِّسان، بعيدًا عن الهجاء"...
لحّن عبد الوهّاب كثيرًا من قصائد شوقي في حياة الشّاعر وبعد رحيله، ونظم شوقي الشّعر باللّهجة العاميّة المصريّة من أجل أن يُغنّيَها عبد الوهّاب، فكان يختار الأغاني ذات التفعيلات المتناغمة مع النوتّات الموسيقيّة العذبة، ومع المشاعر الحميمة والعواطف الجامحة والمعاني المعبِّرة واللافتة. كان شوقي يحترم عظمة الإبداع ويقدرها. يذكر عبد الوهّاب أنّه عندما نظم له أغنية "في اللّيل لمّا خلي"، وأراد عبد الوهّاب أن يضع لها لحنًا يُرضي به ذوق شوقي في الغناء القديم، ولا سيّما اللّون الّذي اشتهر به عبدُه الحمولي، وعبد الحي حِلمي وسواهما من كبار موسيقيّي الجيل الماضي، وقال عبد الوهّاب لشوقي أنّه سيضع لهذه الأغنية لحنًا قريبًا من الألحان القديمة التي تُعجبه، ويتفق مع الألحان التي يُحبّ سماعها. بيد أنّ شوقي تجهّم قليلاً، ثمّ سأله: ماذا يعني بقوله هذا؟  فأعاد عبد الوهّاب قوله: أعني اللّحن القديم مِن مثل الغناء الذي يُؤدّيه عبد الحي حلمي، وهنا قاطعه شوقي وقال: اِسمَعْ يا اِبني... الفنّان الأصيل لا يخلق شيئًا على ذوق غيره، إنّما يستلهم ذوقه وإحساسَه وحده. وأنصحكَ بالابتعاد عن هذه الطريقة لأنّي أعتبرها نِفاقًا وتملُّقًا لرغبات النّاس. اِجعلْ فنَّكَ ينبعُ مِن ذاتِ نفسك، لأنّ ذلك يجعلك تعتزّ بما تخلقه من الألحان. وأنا شخصيًّا أصبحتُ أعيش في بيئة غير البيئة التي تعيش أنتَ فيها، وربّما يكون ذوقي غير متَّفِق مع ذوقك، ولكن إذا حاولتَ أن تُسمعَني لحنًا تعتزّ به وتحبّه فسيكون أفضل لي، لأنّي في الحالة هذه أسمع فنًّا غير زائف أو مصطنع.  يقول عبد الوهّاب في مذكَّراته: كان ذلك الدّرس الأوّل الذي تعلّمته من شوقي، والدرس الثاني كان بخصوص العناية بالجوهر من دون المظهر، والمعنى من دون المادّة، واللُّباب مِن دون القشور.
بلغ ما لحّنه عبد الوهّاب وغنّاه لشوقي أكثر من ثلاثين قصيدة وأغنية، إثنتا عشرة أغنية منها تقريبًا باللّغة العامّيّة المصريّة وهي: اللي يِحِبِّ الجمال، دارِ البَشايِر، سيد القمر في سماه، شبكني قلبي، غايِر مِنِ اللي هَواك،  قلبي غدَر بي، الليلْ بِدْموعو جاني، ياما انتَ واحشني وروحي فيك"، يا ليلةِ الوصل،  بُلبُل حَيْران، في اللّيل لمّا خِلي، النّيلْ نَجاشي.
نتعرّف إلى كلمات عدد مِن مطالِع هذه الأغاني التي نظمها شوقي بالعاميّة ليُغنّيَها عبد الوهّاب، فنتعرّف بالتالي إلى أدب أمير الشعراء باللّغة الشعبيّة. يُذكر بأنّ أغنية "شبكني قلبي يا عينَيَّ" كانت الأولى بالعاميّة التي نظمها شوقي ليغنّيها عبد الوهّاب ويقول فيها:
توحشنـي وِانتَ وَيّـايـا    واشتاق لَكْ وِعِنيكْ في عِينيَ
واتدلّـلْ والحـقِّ معايـا    وأعاتْبَـكْ ما تْهونْشِ عَلَيّـا
ونذكر أيضًا أغنية: "ياما انتَ واحِشْني وْروحي فيك"، وقد نظمها شوقي منذ زمن بعيد ليغنّيَها عبدُه الحامولي، جاء عبد الوهّاب ولحّنها وغنّاها. يُقال بأنّ سعد زغلول كان يُحبّ هذه الأغنية كثيرًا، وكان يطلب من عبد الوهّاب أن يُغنّيها له، عندما كان الموسيقار يلتقي بالزّعيم الوطنيّ زغلول برفقة شوقي الذي كانت تربطه بسعد زغلول صداقة متينة.
برع عبد الوهّاب في "المونولوغ" إلى حدٍّ بعيد وله في هذا المقام أغنيات كثيرة، منها تلك التي نظمها له شوقي:
إلـلي يِحِـبِّ  الْجَمـالْ يِسْمَـحْ بِروحُه  وْمالُـه
قَلْبُـه إلى الْحُسْـنِ مالْ      مالِ الْعَـوازِل  وْمالُـه
نـام يـا حبيـبي نـام       سِهْرِتْ  عليكِ الْعِنايَـة
يا ريت تِشوفْ في الْمَنامْ    دمعـي وْتِنـظُرْ  ضنايا
الحبِّ طيـر في الْخمائلْ     شِفنا غرايِبْ جُنـونُـه
حاكِـمْ بِأمْـرُه وْشايِـلْ     على جْناحُـه  قانونُـه
تيجي تيصيـدُه يِصيدَكْ وْمِنْ سِلِـمْ مِنْ حِبالُـه
في هذه الأغنية نسمع عبد الوهّاب يُجدِّد ويتصاعد في نغم مختلف من مجموعة الكورال مع ترديده: "تيجي تيصيدُه يصيدَكْ"...
وله أيضًا في هذا الفنّ من شعر أمير الشّعراء "بلبل حيران"، التي يقول في مقدِّمتها:
بلبل حيـران على الغصـون شجـيْ معنى بالورد هـايم
في الدَّوحِ سهران من الشُّجون بكـى وغنّى والورد  نـايم
وله أيضًا في "المونولوغ" من شعر شوقي:
في اللّيـلْ  لمّـا خِلـي إلاّ  مِــنِ  البّــاكـي
والنُّوحْ على الدّوح حِلي للصّـارخ  الشّــاكـي
مـا تعـرِفِ  المبتـلي في الرّوض مِـن الحاكي
      ....................................................
الفجر شَـأْشَـأ  وفاضْ على سـوادِ  الخميلَــة
لمـعْ كلمـحِ  البيـاضْ منِ العيـونِ الكحيلَــة
واللّيلْ سَرَحْ في الرّياضْ أدهَـمْ بغُـرّة جميلَــة

"دار البشاير مجلسنا"
هي زفّة العريس علي شوقي ابن أحمد شوقي، لقد زفّه عبد الوهّاب إكرامًا لأمير الشعراء الذي نظم كلمات هذه الزّفّة. وجرى العُرس في منزل شوقي الجديد "كرمة ابن هانئ" سنة 1926، وقد لحّن عبد الوهّاب هذه الزفّة على "مقام بياتي". ومن كلماتها:
  دارِ البَشـايرْ مَجْلِسْنـا /  وْليلْ زفافَكْ مُؤنِسْـنا
إنْ شاالله تِفرَحْ يا عَريسْنا  /  وِانْ شاالله دايمًا نِفرَحْ بيك   
على السّعادة وعلى طيرْها  / وادخُلْ على الدُّنيا وْخيْرْها
فرْحَة ما تْشوفِ النّاسْ غيْرها /  وتْعيش لصَحْبَك ولأهْلكْ
يروي فايز نصّار في كتابه "مذكّرات محمّد عبد الوهّاب"، أنّ سعد زغلول كان على رأس المدعوّين في هذا العرس، وعندما قدِم أحد المصوِّرين ليلتقط صورة تجمع بين الزّعيم سعد زغلول وأحمد شوقي، قال الجُديلي سكرتير سعد زغلول: يجتمع في هذه الصّورة الخلودان! خلود الوطنيّة وخلود الشِّعر. فضحك سعد زغلول وقال، وهو يُشير إلى أمير الشُّعراء: "لا تقلْ هذا أبدًا... إنّ هذا الرّجل هو وحده الخلود في هذه الصّورة، فبعد خمسين سنة لن تجدوا أحدًا يذكر اسم سعد... ولكن ستجدون إلى الأبد مَن يذكر شوقي ويترنّم بشعره".

حكاية أغنية "اللّيل بدْموعُه جاني"
كان أحمد شوقي يصطحب معه دائمًا عبد الوهّاب في أثناء إقامته في لبنان في فصل الصيف. وفي صيف 1927، دُعيَ عبد الوهّاب لإحياء حفلة غنائيّة في فندق شاهين بعاليه، وصباح يوم الحفلة بالذّات كان عبد الوهّاب يقرأ جريدة المقطّم التي كانت تصل إلى المصطافين تباعًا، فإذا به يفجأ بخبر وفاة والده، فنزل عليه هذا الخبر الذي قرأه في الجريدة كالصّاعقة، ولفّه الحزن الشّديد. كان شوقي إلى جانبه يُواسيه محاولاً تخفيف حدّة هذه الصدمة على قلب الموسيقار الرّقيق وحسّه المرهف. ثمّ توافقا على ان تُلغى الحفلة. حاول الشّاعر أن يصرف الموسيقار الحزين عن الانفراد في أحزانه، فدعاه لزيارة الدكتور طه حسين الذي كان يصطاف أيضًا هذه السنة في فندق "جبيلي" في عاليه. وحال وصولهما رحّب بهما طه حسين، وبادر الموسيقار بقوله إنّه مزمع حضور حفلته تلك اللّيلة. أخبره شوقي بالخبر الأليم الّذي تلقّاه المطرب الموسيقار صبيحة هذا اليوم، وإنّه قرّر إلغاء الحفلة. فكّر طه حسين قليلاً، ثمّ توجّه إلى عبد الوهّاب قائلاً: "ومَن قال لكَ أنّ الغناء للأفراح وحدها دون الأحزان؟ غنِّ يا عبد الوهّاب وابكي، ودعِ النّاس يُغنّون معك ويبكون"...  واقتنع عبد الوهّاب أخيرًا، ولكنّه سارع إلى القول: ومِن أين سنأتي بالأغنية الحزينة تلك في هذه العجالة؟ فأجابه طه حسين: "البَرَكة في شوقي"! وهكذا نظم له شوقي أبياتًا ما لبث أن حفظها بسرعة ولحّنها، وغنّاها في الحفلة عينها وفي الموعد ذاته، وبَكى عبد الوهّاب وبكى النّاس معه. من كلمات هذه الأغنية نقرأ:
اللّيـلْ بِدْموعُـه جـاني    يا حمـامْ  نـوحْ وَيّايـا
نوحْ  وِاشْرَحْ  أشجـاني دا جُوّاكْ مِن جِنْسِ جُوّايا
الشُّوق هاجَكْ مِن روحَكْ وشكيتِ  الوَجْـدِ معايـا
اِبْكي بالدَّمـعِ  لنـوحَكْ وتْنوحْ  يا حمامْ  لبُكايـا
بُعْـدِ الأحبـابْ لوَّعْـنا وِالصَّبْـرِ دَواكْ وِدَوايـا
وْمَصير الأيّـام  تِجْمَعْنا    إنْ كانْ في الصَّبْـرِ بقايا

"يا شراعًا وراء دجلة يجري"
هو الشطر الأوّل من القصيدة التي نظمها شوقي في ملك العراق فيصل الأوّل. وحكايتها أنّ أمير الشعراء كان يتردّد على مدينة باريس التي أحبّها منذ عهد الشباب، أيّام كان يدرس في فرنسا، وكذلك أيّام كان يُرافق ولدَيه إلى هناك لتلقّي تعلُّمهما في جامعاتها. لقد التقى، وهو في السفينة إلى فرنسا، بالملك فيصل الأوّل ملك العراق عام 1928. وكان يلتقي به في باريس في أثناء إقامة الاثنين في هذه العاصمة المميَّزة بالثقافة والفنّ والذوق، فتوطّدت بين الملك والشاعر عرى الصداقة والمحبّة. دعاه الملك لزيارته في بغداد، وكان يُلحّ عليه من وقت إلى آخر بالسّفر إلى هناك، وشوقي يُؤجِّل السفر من شهر إلى آخر، ربّما كان ذلك بسبب خشيته المعهودة من ركوب الطّائرة، وإن أراد السّفر بالبرّ فالطريق البرّيّة من مصر إلى بغداد طويلة جدًّا بالنسبة إلى رجل جاوز الستّين من عمره. وأعاد الملك دعوته تلك، فما كان من أمير الشعراء إلاّ أن أوفد، نيابة عنه، مطربه عبد الوهّاب إلى بغداد وحمّله قصيدة نظمها تحيّةً للملك، وكان ذلك عام 1931. غادر عبد الوهّاب القاهرة متوجِّهًا نحو بغداد عن طريق البر. وما أن وصلها حتّى توجّه نحو البلاط الملكيّ، يحمل عوده. وغنّى عبد الوهّاب قصيدة شوقي في حضرة الملك فيصل:
يا شراعًـا وراءَ دِجلةَ يَجْري في دُموعي تَجَنَّبتْـكَ العَوادي
سِرْ على الماءِ كالمسيحِ رُوَيْدًا واجْرِ في اليَمِّ كالشُّعاعِ الهادي
وَأْتِ قاعًا كرَفْرَفِ الخُلدِ طيبًا أوْ كفِرْدَوْسِـهِ بَشاشـة وادي
ويُخاطب عبد الوهّاب بالذّاتِ في البيت التالي:
قِفْ تَمهَّلْ وخُذْ أمانًا  لقلبي مِنْ عُيونِ المَهى وراءَ السَّوادِ
ويُتابع الشّاعر:
والنُّواسِيُّ والنَّدامـى أمِنْهُمُ سامِـرٌ  يَملأ الدُّجى أو نـادِ
خَطَرَتْ فوقَهُ  المَهارَةُ تعدو في غُبـارِ الآبـاءِ  والأجدادِ
أُمّةٌ تُنشِئُ الحيـاةَ وتبنـي كبِـنـاءِ الأُبـوَّةِ الأمجــادِ
تحتَ تاجٍ مِنَ القرابَةِ والمُلْـ       كِ على فَرْقِ أَرْيَحِـيٍّ جـوادِ
ملِكَ الشطِّ والفُراتَيْنِ والبَطْـ       حاءِ أعْظِـمْ  بفيصـلٍ والبلادِ

غنّى عبد الوهّاب المواويل والأدوار و"المُونولوغ" والقصائد وغيرها
نظم شوقي الشعر بالعاميّة من أجل الغناء، مِن أجل أن يُقدِّم عبد الوهّاب للناس أغانٍ يُحبُّونها، وعلى رأسها المواويل والأدوار والأزجال، تلك القوالب والمقامات الموسيقيّة التي ترقى إلى ماضي بلاد الشّام منذ العصور العربيّة الأولى. فالمواويل ترقى، كما يقول أكثر الباحثين، إلى العصر العبّاسي الأوّل، إلى عصر هارون الرّشيد الذي بطش بالبرامكة الوزراء الفرس الكبار، وعلى رأسهم جعفر البرمكي، الذي أحبّه الناس لكرمه كثيرًا، حتّى الجواري في قصور الخلفاء والأمراء بكَينَ لأجله غمًّا وحزنًا. يُروى أنّ جارية تُدعى المواليا، ندبته إثر مقتله بحرقة وألم شديدين، وقالت:
يا دارُ أينَ ملـوكُ الأرضِ أينَ الفُـرْسْ
أيـنَ الّذيـن حَمـوها بالقَنـا والتُّـرْس
قالتْ: تُراهُمْ رَمَمْ تحتَ الأراضي الدّرْس
سُكـوت بعـدَ الفصاحةْ،  ألسنتْهُمْ خُرْس  

يُقال، أنّه نسبة لاسم هذه الجارية سمّوا هذا النوع من الغناء الموّال. أو كما يُقال بأنّ هارون الرّشيد منع أحدًا يبكي البرامكة، فكانت الجواري، وقد أحببنَ جعفر البرمكي كثيرًا لكرمه وعزّته، يندبنَه في السرّ بأقوال فيها تحسّر شديد ويُردِّدنَ في آخر البيت صرخة من القلب: يا مَوْلايَ، التي صارت يا مواليا. وغيرها من البحوث كثيرة في هذا الموضوع، فصفيّ الدّين الحلّيّ وعبد الكريم العلاّف في كتابه "الموّال البغدادي" ينسبان هذا النمط من الغناء إلى مدينة واسط في العراق. الجدير بالذكر أنّ إيقاعات الموّال تثبت أنّه من البحر البسيط، كما هو في الأبيات التي ذكرناها في كلامنا على بدايات الموّال.
والموّال أنواع: السداسيّ المصريّ، والسّبعاويّ العراقيّ الذي يُسمّونه عندنا البغدادي أو الشّرقاوي، وثمّة موّال آخر يُسمّونه "النغم الحجازيّ". وغيرها من أنواع المواويل في البلاد  العربيّة المختلفة، والتي قد تتعدّى الثمانية أبيات أو التسعة أو العشرة.
كان الموّال قبل عبد الوهّاب ممهِّدًا للوصلات الغنائيّة، وفيه يُظهر المطرب براعته في الارتجال بالغناء المرسَل من دون إيقاع، من مثل أغنية "يا ورد مين يشتِريك"، فعبد الوهّاب يسترسل في الموّال مع البيت: "أصْفرْ مِن السّقم / أم مِن فِرقِةِ الأحباب...  وفي "الحبيب المجهول" نسمع إيقاع الموّال مع عبد الوهّاب في مقطع: "مين إنتَ يللي بِتشاغِل أحلام شبابي"... وغيرها من الأغنيات الوهّابيّة التي بلغت نحو التسع، والتي أدخل فيها عبدالوهّاب الموّال. بيد أنّه كذلك فقد جعل الموّال مستقلاً في أغنيات كثيرة، لقد جعل الأغنية كلّها موّالاً، نذكر تلك التي نظمها له أمير الشعراء، وهي "سيد القمر" وتقول كلماتها:
سيدِ القمر في سماه... والبانِ في عـودِه
تحتِ اللّيالي عليلْ...قولْ لِلخيالْ عـودي
شافِ المقدّر وْشافْ...في الحبِّ موعودِه
إمْتى تُعودْ لي... وأقول للكاسْ للنّدمـان
عادِ الحبيب يا حبايِبْ... للطَّرَبْ  عودي

ومن أشهر المواويل الوهّابيّة أيضًا: "النبي حبيبك" التي نظمها له شوقي، ويقول فيها:
النَّبي حبيبَك ما تِحْـرِمْشِ الفؤاد مِنَّـك
وْتِشْفي  قلبي المتيَّـمْ  والـدّوا عِنْـدَك
يِِكفي عذابي  ويِِكفـي  إنّي أنا عَبْـدَك
ما أَنْشِ لِسَّه الأوان بالقُرْبِ يا روحـي
دا البُعدِ مهما يْطولْ ما ليشْ غيرْ عِندَك
وغنّى عبد الوهّاب شعر شوقي على قالب الدّور، وهو فنٌّ قديم عند العرب، وقد ذكره الأصفهاني في كتابه "الأغاني". عاد قالب الدور إلى الغناء العربيّ ابتداء من القرن التاسع عشر مع محمّد عبد الرّحيم المسلوب الذي عاش 135 سنة وتوفي سنة 1928. وقد لحّن المسلوب مئة دور. وكذلك فقد غنّى الدّور الشيخ سلامة حجازي وداود حسني وأبو العلا محمّد وسيّد درويش ومحمّد عبد الوهّاب وغيرهم. يتألّف الدّور من المذهب، والأغصان، والآهات التي يُردِّدها المغنّي من المقام الأساسيّ. لفظة الدَّور، ترقى إلى معنى مَن يدور، أي يعود إلى المقام الأوّل واللّحن الأساسيّ، بعد أن يكون قد تنقّل من مقام إلى آخر مشابه له، أو قريب منه. يدور ثمّ يعود مع الآهات التي يستعرض فيها المغنّي قدرته على التنقّل بين المقامات برشاقة جذّابة. وعبد الوهّاب وضع نحو ستة أدوار فقط، منها: "ياليلة الوصل استنّي"، التي نظمها له شوقي، ويقول فيها:
يا ليلةِ الوَصلِ استنّي / إفرَحْ ببَدري واتمتَّـع
الفجر ليه ياخْدوه منّي / الصُّبْحِ لأهلُه يِطلَـعْ
يا قلبي ليْلي وْليلَك كيدَ / دوقِ البشاير واتهنّى

عبد الوهّاب يُغنّي شوقي في الأفلام
أدخل عبد الوهّاب بعض أشعار شوقي في أفلامه. ففي الفيلم الأوّل "الوردة البيضاء"، الذي أخرجه محمّد كريم، وكان من بطولة عبد الوهّاب والفنّانة سميرة خلوصي، وقد عُرض الفيلم بتاريخ 4/3/ 1933. غنّى عبد الوهّاب فيه ثماني أغانٍ، منها أغنية "النّيل نجاشي، التي كان قد نظمها له شوقي، وهي جميلة جدًّا، وصفًا وصورًا وحكاية وحِوارًا، من أبياتها:
النّيـل نَجـاشـي  حيـلِيْـوَهْ أسْمَـرْ
عَجَبْ لِـلُونُــهْ  ذَهَـبْ وْ مَرمَـرْ
أُرْغولُهْ في إيـدُهْ  يِسَبِّـحْ لِسيــدُه
حيـاةْ  بِـلادْنـا      يا ربِّ  زيــدُه
            ........................
قالَتْ: غَرامي في فْلوكَهْ      وْساعَـهْ نَـزْهَه عَ الْمَيَّهْ
لَمَحْتِ عَ البُعـدِ حمامَه      رايْحَه على المَيَّهْ وْجايَّـه
وِقِفْتِ أنادي الْفـلايْكي      تَعالَ مِنْ فَضْلَـكْ  خُدْنـا
ردِّ الفــلايْكي      بصَوْتْ مَلايْـكي
قالْ: مرحبًا بكُمْ مرْحَبتَيْن    دي سِتِّنـا وِانْتَ سيـدنـا
        هيـلا هُوبِّ  هيـلا
              ......................
جاتِ الفلوكَـه والمَـلاّحْ وِانْـزِلْنـا  وِرْكِـبْـنا
حَمامَهْ بيضا بْفَرءدِ جِناح تِـوَدّيـنـا وِتْجِيـبْنـا
وْدارَتِ الأَلْحانْ  وِالرّاحْ     وِسْمِـعْـنا وِشْـرِبْنـا
                 هيـلا هُوبِّ هيـلا

كذلك، غنّى عبد الوهّاب لشوقي بالاشتراك مع أسمهان "أوبريت مجنون ليلى"، وذلك في فيلمه الرّابع "يوم سعيد" بطولة عبد الوهّاب، وسميحة سمح، وفاتن حمامة. عُرض هذا الفيلم بتاريخ 15 يناير/ كانون الثّاني سنة 1940. يذكر روبر الصّفدي في كتابه "تاريخ الموسيقى العربيّة" ص 137، ما نقله من مذكّرات المخرج محمّد كريم، أنّه في أثناء الاعداد لهذا الفيلم "أحضر عبد الوهّاب فرقة كبيرة من العازفين العرب والأجانب لتنفيذ أوبريت "مجنون ليلى"... وقد شاركت في البطولة النسائيّة أسمهان، التي كانت ترغب من كلّ قلبها في الظُّهور على الشّاشة في دور "ليلى"، ولكنّ وجهها، رغم ما تميَّز به من جمال وأنوثة وفتنة، كان لا يصلح لتمثيل وجه الإعرابيّة ليلى". ويردف الصفدي: "وبذلك تكون قد خسرت الشّاشة الكبيرة لقاء عملاقَيْن من عمالقة الأغنية العربيّة...واكتفت بعمل الدّوبلاج على أوبريت "مجنون ليلى" وأغنية "محلاها عيشة الفلاّح".

غنّى عبد الوهّاب القصائد وأبدع، غنّى بالدّرجة الأولى عددًا من قصائد والده بالرّوح ومعلِّمه شوقي، الذي كانت وصيّته له بأن يُغنّي أشعاره بعد مماته، قال له يومًا: "يا محمّد إذا كنتَ تحبُّني، غنِّ لي أشعاري بعد مماتي". وعمل عبد الوهّاب بحسب الوصيّة وغنّى له معظم قصائده الغزليّة، كما غنّت له أمّ كلثوم عددًا من قصائده الدّينيّة وأهمّها:"نهج البردة" ومطلعها:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعلمِ أحلَّ سَفكَ دَمي في الأشهُرِ الحُرُمِ
وغنّت أيضًا من قصائد شوقي الدّينيّة، "سلوا قلبي":
سلوا قلبي غداة سلا وتابَ لعلّ على الجمال لهُ عِتابـا
أمّا عبد الوهّاب فقد لحّن وغنّى الكثيرَ من أشعار شوقي بالفصحى، نذكر: "أنا أنطونيو"، "رُدّت الرّوح"، "قلبٌ بوادي الحِمى"، "يا جارة الوادي"، "قلبي غدَر بي"، "يا ناعمًا رقدت جُفونُه"، "تلفّتت ظبية الوادي"، "سجى اللّيل"، "علّموهُ كيف يجفو"، "أوبِّريت مجنون ليلى"، "دمشق"، "السّودان"، "مُضناكَ جفاه مَرقدُه"، "جبل التوباد"، "مقاديرُ من جفنَيْكِ"، "أيّ سرٍّ فيك"، "خدعوها بقولهم حسناء"، "إلامَ الخلفُ"، "منكَ يا هاجري دائي"، "شكسبير أعلى الممالِك"، "ما لروحَيْنا عن الحبّ غنى".
تعلّق أمير الشّعراء بمطربه كثيرًا، ويُروى أنّ آخر كلمة أسرّ بها شوقي إلى خادمه النّوبيّ أحمد كوشه، قبيل رحيله بثوانٍ عند فجر الرّابع عشر من أوكتوبر/ تشرين الأوّل 1932: "سلِّم لي على محمّد..."
هذه صور وحكايات متنوِّعة، التقطّها من هنا وهناك، وغيرها الكثير والكثير التي ما زالت كامنة في بواطن المصادر والمراجع المختلفة. يستطيع الباحث أن ينهل منها أكثر، يُقدِّمه إلى القارئ قصّة نهضة الغناء العربيّ الحديث، بعد عهودٍ من الجفاف والرّكود واليباس في الفنّ كما في الشّعر والأدب بعامّة. لقد أحبّ شوقي الغناء العربيّ كما والغربيّ إلى حدٍّ بعيد، وأدرك أهمّيّته ومراميه وعلاقته الحميمة بالشّعر. حاول بكلّ جوارحه أن ينقل شعره إلى قلوب النّاس بوساطة اللّحن والأغنية، فأنعم الله عليه وعلى الأمّة العربيّة بموسيقارٍ مبدع ومطربٍ راقٍ قلّ نظيره، ليكون تلك الوساطة المقدّسة العالية بين الكلمة واللّحن والغناء، ليكون ترجمان الشّعر الصّافي العذب الرّفيع، والغزل العفيف الحلو، والمعاني الوجدانيّة الحميمة، والمشاعر المرهفة العميقة... فكانت تلك القصائد – بالفصحى وبالعاميّة – أغانٍ يترنّم بها الكبير والصّغير، الشيخ الوقور والفتى اليافع اللاهي، والحرّة المحصّنة كما والفتاة بنت الورود. يجد كلّهم فيها: العواطف النبيلة، ومرح الشباب، والمتعة الرّاقية، واللّذة، والتجلّي، والفيض الرّوحيّ، والانعتاق في عالم حبيب جميل وديع، تحفّه الأنغام الرّفيعة الرّقيقة، ذات الجمل الموسيقيّة العذبة الصّافية، والتي تنقلك إلى فضاء أرحب، يعلو ويعلو فوق الجمود والجدّ والعناء واليأس والانقباض والعبث وغيرها. لقد عمل شوقي في سبيل إحياء الأغنية العربيّة، وانتشالها من مستنقعات الكلام المرذول والمعاني الجوفاء العفنة، والمجون، والخلاعة والخساسة. حاول التقدّم بوساطة أشعاره  التي نظمها من أجل الأغنية العربيّة نحو مدارج الرّقيّ، في الأدب الرّفيع والفنّ العالي. ‘1‘
.............................
لقد استقيتُ موادّ كثيرة في بحثي المتواضع هذا من مصادر متنوِّعة أذكر أهمّها:
  - أحمد شوقي، الشوقيّات، الجزء الرّابع
جورج إبراهيم الخوري، حكايتي مع النجوم
روبير الصّفدي، تاريخ الموسيقى العربيّة، بيروت، دار الفكر العربي  
سعد سامي رمضان، محمّد عبد الوهّاب، بيروت، دار المقاصد
د. شوقي ضيف، شوقي شاعر العصر الحديث
عبّاس حسن، المتنبّي وشوقي
 فايز نصّار، مذكّرات محمّد عبد الوهّاب

CONVERSATION

0 comments: