تراتيل... وبؤس/ عبد العالي غالي

في نهاية الأسبوع الفارط، كنت أمشي الهوينا عبر المسالك الملتوية للغابة الموحشة، أتنسم أريج الجريد وأهش بوحدتي على صخب كثيرا ما رافقني منذ إطلالة هذا الربيع العربي الممجوج... جلست إلى ساقية علي أجد عندها ما به أروي عطشا أحس أنه لازمني لأيام طوال، طول الحنق في ذواتنا التي ملت الأنين. وبينما كنت أراني على صفحة الماء أغوص في غيبوبة مستملحة، إذا بنغمات موسيقى غربية تتسلل إلى سمعي من وراء النخيل... كدت أطرب لها لولا أن تبعتها خطوات شاب بلحية كثيفة كثافة التاريخ الإسلامي، يداعب هاتفه المحمول من النوع الحديث، بأصابع يده الخشنة، علامة الكد في طلب الرزق الحلال، بعرق الجبين، وخدش الأرض بالأظافر علها تجود بحبات قمح وقليل خضروات لأفواه مافتئت مفتوحة تنتظر من يطعمها على بساط هذه البلاد المنزوية التي يتعايش أهلها مع الفقر من المهد إلى اللحد.
بعد التحية الكاملة والرد المقتضب، جلس الشاب القرفصاء على جانب الساقية، والنغمات الغربية تملأ المكان نشوة، بعد أن وضع هاتفه بتوءدة في مكان آمن عن مجرى الماء. رفعت عيناي أتلصص مسلكا إلى أذن الشاب الوقور من أين لها هذه اللياقة السمعية، وكيف لها أن تتقبل كل هذا الفن بينما تحيته ولحيته توحيان بأنه ممن لا يهوون المعازف... غير أني سرعان ما تداركت نفسي، وأطفأت كثيرا من المحركات بداخلي، حفاظا على طاقة الاختلاف التي مازلت من اشد المنادين بالمحافظة عليها.
توقف صوت الطرب فاسحا مجال الأثير للمذيع يتلو نشرة الأخبار... آنذاك عرفت أن الشاب إنما كان يستمع إلى "راديو سوا" (...) وأنني قبل الظن كنت آثما لا بعده... جولة سريعة في أخبار طواف المسؤولين الأمريكين على كثير عواصم نفط، وحج كثير أمراء نفط للطواف حول البيت الأبيض... تبعه حديث عن عدد القتلى والجرحى في كل من مالي ونيجيريا واليمن والصومال والسودان والعراق وليبيا وتونس ومصر ولبنان وصولا إلى بروما واندونيسيا عبر باكستان وأفغانستان... حتى تمنيت لو أنه اختصر نشرته بأن يعلن أن الموت أصبح يتنقل عبر قطار فائق السرعة على خط طنجة جاكارتا وكفى(...) ثم انتقل المذيع بلطافة أظنها مصحوبة بابتسامة عريضة لحديث خاص عن "الثورة السورية" خاتما خطبته الموغلة في الدماء والجثث والصديد بالحديث عن أن "كتائب الأسد مدعومة بالحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله" (...) قد بدأت هجوما على مدينة القصير وأن "الجيش الحر" قد تصدى للهجوم بنجاح وأوقع المئات من المهاجمين بين قتيل وجريح (...) هنا أطلق الشاب الورع صوتا يدل على التهكم والازدراء وأضاف دون أن يوجه الخطاب لي ما معناه "هزمنا الشيوعيين من قبل وكنا قليلي خبرة... أو يظنون أننا قد نحتار في مواجهة الشيعة الروافض؟(...)". في هذه اللحظة كان مناد ينادي عليه أن هيا بنا نلحق صلاة المغرب في الجامع الكبير، فوقف الشاب مهرولا... وأظنه نسي أن يحييني تحية الوداع...
استعصى علي أن أكون طيعا لسماع كل هذا الدمار الذي أبى أن يشد الرحال لغير أوطاننا... وبقيت متسمرا في مكاني أداعب الماء تارة وأشرب أخرى... وأنا أتأمل مدى ما بلغناه من سوء أحوال وجودية جعلت كل المحافل ضدنا، حتى أننا ما عدنا نعاف القماقم والحفر... فوحدنا تألق فينا الغياب وصنع منا أهراما من العبث ودوائر من العدم. ومعه أصبحت مدرجات ملاعبنا تهتز إذ نسجل الأهداف في شباكنا، مادامت الشباك الأخرى تملك حراسا من فرط راحتهم تحولوا إلى مدربين لنا (...) وهنا تذكرت بيت شاعر ما عادت الذاكرة تسعف في ذكر اسمه، إذ يقول:
إذا انصبَّ ماء اليأس في مقلة الرجا *** فليس لها عند اللبيب سوى القدَح
أخرجني من هذا الخلط، قهقهات شابة اختارت أن ترتدي ملابسا تكشف عورة العين لا عورتها(...) وأظنها تعمدت أن ترفع صوتها، وضحكاتها المصحوبة بسباب أنيق للشاب بجانبها، بعدما علمت بوجودي في المكان، إيذانا بأنها تتصرف بعفوية من لا يهوى أوكار الخفافيش (...) وقف الشابان وحيياني باقتضاب ونزل الشاب يملأ قنينة ماء يشرب منها ثم يناولها الشابة التي شربت وقد بدا أن حواسها قد هدأت بعد تيقظ سبق التعرف على الغريب بجانب الساقية الذي هو أنا... ثم انسحب الشابان في هدوء تاركين لي فرصة العودة إلى الهدوء الذي أظنه يأبى أن يصاحبني بديلا عن صخب الأزمنة الرديئة... فقررت أن ألملم أشلاء ذاكرتي بعد هذه الرحلة الدالة بنوع الطالعين (...) والمجحفة حد التشاؤم بموسيقاها الغربية التي سبقت وتلت حتما وصلة الاكتئاب التي أظنها أصبحت سرمدية دون أن يتجرأ طبيب نزيه ليعلن أن الكيانات المسماة دولا عندنا قد تحولت إلى مصحات نفسية من الدرجة العاشرة، ومعها تحولت الأوطان إلى أوثان لا تصلح حتى للعبادة (...)
نعم إن علة الحياة قلة الأحياء رغم كثرة عددهم، ذلك أن الأحياء بيننا هم من يستطيعون أن يعطوا للروح شراب المعنى، وهم قليلون بقلة من يشهرون أحلاما لا نملك جسارة التفكير فيها...
يبقى فقط أن أختم بالإشارة إلى أن السيطرة تكون أسهل كلما كان المسيطر عليه غير واع... وتلك حال خط طنجة جاكارتا للأسف.

المغرب

CONVERSATION

0 comments: