سبينوزا و هادي المهدي وهذا الزمان/ أسعد البصري


أجلس على صخرة سوداء في الجبل الممنوع . جبل لم يقف عليه نبيّ من قبلُ ، ولم تُسمع فيه موعظة . جبل مسحور ، كل مَن فوّق سهماً إليّ ، يرتدّ عليه ، و يخترقُ نحره . المسافة بين فهم الشيء و تغييره ، بين قول الأفكار و تطبيقها . الثقافة الثورية ، تعني صراعاً و ألماً ، لكنها أيضاً عزلة . لأن الوعي يظل فردياً . خصوم الثقافة يفضحون عقولهم بالمقاومة . لا يمكن مقاومة الثقافة بالثقافة . هذا مستحيل بل يُسوِّد الوجوه ، و يجلب الخزي . لستُ فكرة أو نظرية ، مجرد تحريض و غواية . عدم ارتياح التاريخ ، و صيرورة انقلاب . يحاصر الوطنيون في الأزمات ، والإنحطاط الثقافي ، ولا يرفع الحصار إلا بخيانة وطنية بكل أسف .
لقد حول اليهود الفيلسوف سبينوزا ( ١٦٣٢ - ١٦٧٧ ) إلى نجس ، لا يمكن الإقتراب منه لأكثر من متر . كان المتصدقون يرمون الطعام على بابه ويفرون من نجاسته . بعد أن دبر الحاخامات تهمة الزندقة ، وألصقوها به . لم تؤد تلك التهمة الإرهابية إلى حرمانه من الميراث فقط ، بل كان لزاماً عليه مغادرة مسقط رأسه أمستردام ( أكثر المدن تسامحاً في عصره ) حين أطلقت طائفته اليهودية ، الفتوى بتكفيره عام ١٦٥٦م ، حدث أمر ذو مغزى كبير ، وهو تحالف رجالات الكنيسة مع الحاخامات في تحويل سبينوزا إلى طريد يتلفت و منفي . تحالفات عجيبة لا تخطر على بال تحدث لوأد صوت مستنير و متمرد . ضريبة الحقيقة كبيرة ، حين كنت أدافع عن هادي المهدي ، أرسلت لي سيدة رسالة من أقاربه تقول إن المحققين ، يتعاملون مع الشهيد كمتهم ويريدون إلصاق تهمة الزنى به . بل يدعون أن الجريمة كانت قضية شرف و غسل عار. أبو ذر الغفاري ، و سبينوزا ، و هادي المهدي . هؤلاء فضائح صارخة لعصورهم . بعد وفاة سبينوزا ب خمسين سنة ، كتب احد اللاهوتيين المسيحيين العبارة التالية لكي توضع كشاهدة على الضريح (( هنا يرقد سبينوزا ، ابصقوا على قبره )) . يقولون لي كيف تضحي بنشر نصوص ، و أفكار بأسماء مستعارة ، ما هي الغاية ؟؟ . وما هي الغاية ، صديقي، من نشر سبينوزا ، كتابه الشهير (( مقالة في اللاهوت السياسي )) بلا توقيع وباسم مزور ( الكتاب المصنف أكثر إلحاداً في عصره )) ، بل غير سكنه بعد نشره من لايدن الى لاهاي .إن الضيق الذي نتعرض له ، هو دليل آخر على أننا نعيش عصرا مظلما ، يشبه القرن السابع عشر ، الذي عاش فيه سبينوزا . في اللحظات المظلمة من حياة سبينوزا ، دعم قليل جاءه من أصدقاء و علماء على أصابع اليد الواحدة . هذا الدعم في تلك الفترة التي كان فيها ملعوناً ، و نجساً ، و زنديقا كان يعني له الكثير ، و ساعده على الإستمرار . ولكن طبعا مثل كل الرؤيويين الكبار ، لم يعش الرجل الفيلسوف الذي تأثر أول ما تأثر باليهودي العربي ( ابن ميمون ) سوى ٤٤ عاماً ، قضى نصفها هارباً ، جائعاً ، متنقلاً بين مدن أوربا .
أبو ذر الغفاري يمثل مقاومة الفساد والدفاع عن الفقراء ، سبينوزا يمثل الحرية الفكرية و كرامة الإنسان ، هادي المهدي يمثل حق التعبير . كل كاتب ، وفنان يجب أن يمثل فكرة ، أو موقفاً ليستحق القراءة . الذي كابده سبينوزا هو ما نكابده نحن اليوم . انحطاط ، و فساد ، واتفاق ظلامي من جميع القوى ضد التنوير . هنا يصبح الأمل بكلمة يزرعها راهب ، ثم يعثر عليها صبية يلعبون تحت سفح جبل .
لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ
سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ
الشنفرى

CONVERSATION

0 comments: