الأمــــــن الفكــــــر/ صبحـة بغـورة

  أصبحت مسألة الأمن الفكري من المواضيع الحيوية والهامة و تقتضي درجة الحساسية التي تكتسيها في حياة الشعوب و مستقبل الأمم ضرورة التعرض لها لكونها مسألة أساسية ومعاصرة ولا مناص من مواجهتها في ظل معطيات الأوضاع التي تعيشها الأمة العربية و الإسلامية وما أفرزته من توترات أدت إلى بروز ظاهرتي الاغتراب الثقافي .. والتطرف العقائدي .
من المتفق عليه أن الأمن الفكري هو الانسجام القائم أو المفروض أن يكون كذلك بين ما يؤمن به المجتمع وبين ما يعيشه في مفردات حياته اليومية  وما يتطلع إليه ، إلا أن تحقيق ذلك يتوقف على الإجماع الموجود بين الأفراد في استنادهم إلى مرجعية عقائدية وثقافية واحدة تمثل المعالم الرئيسية للخلفية التي يؤمن بها المجتمع بمختلف طوائفه وعلى تعدد نسيجه الثقافي والسياسي ، فالمجتمعات في حاجة للأمن الفكري لجمع المواطنين على كلمة واحدة ، ومن ذلك يمكن فهم أن تحقيق الأمن الفكري هو مسؤولية المجتمع بكل مكوناته من أجل التوحد حول فكرة واحدة وأساسية بشأن العقيدة والوطن ، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الأمن الفكري يعني حصارا للعقل وحجرا عليه إنما هو تأكيد على حرية الرأي في إطار احترام ثوابت الأمة والمحافظة على تراثها ووقايتها من  محاولات مسخ الهوية أو الغزو الثقافي الأجنبي الهدام لأسس و أصالة المجتمع ، فالأمن الفكري هو ركيزة نهوض الأمم و المجتمعات والكفيل بتوفير أمن العباد والبلاد من مخاطر الاستلاب  .
الأكيد أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يمكن أن تخطو خطواتها الأولى  في الطريق الطويلة لتحقيق أهداف التطور والرفاهية إلا عن طريق أمن فكري مستقر ، ونعمة الأمن لابد لها من توفر نعمة السلام  والعكس طبعا صحيح، والصحيح أيضا أن اضطراب عقيدة المجتمع يبدأ عند أولى خطوات الطعن في وحدة مرجعيتها أي في وحدة مصدر التلقي أو الاستهانة به والتشكيك في حقيقته و جدواه ، فعندما  تتعدد المصادر في مجال العقيدة فذلك يعني أنه مؤشر على الاضطراب والتصدع الذي يؤدي إلى بروز الفكر المتطرف المتصلب أو إلى ظهور الفكر التكفيري مثلا الناتج عن التأويل المضلل أو التفسير الخاطئ  أو عن الحكم بالباطل على نصوص الشريعة ومقاصدها ، ومن هنا تبرز أهمية وحدة المرجعية الدينية والخصوصية المذهبية في العقيدة و الفقه و السلوك كحصانة ذاتية من الغلو و التطرف ووسيلة  أيضا لإرساء الأمن الفكري .
هناك من يعتبر أن مسألة التطرف الديني وحده هو أكبر ثغرة تأتي منها رياح زعزعة الأمن و الاستقرار بمعنى أن الجانب الديني في المسألة هو السبب المباشر لأزمة المسلمين سواء فيما بينهم أو في علاقتهم مع الغرب ، وبالرغم من أن مجالات حماية المرجعية الفكرية متعددة و متشعبة إلا أننا نجد في الواقع ومن  خلال تطورات الحياة  السياسية ـ الأمنية في الساحة العربية والإسلامية ما يدفع حقيقة إلى تناول تلك المسألة من هذا الجانب بالذات بعدما أصبحت ألوان التعصب والتطرف والإكراه المعبر عنها بالعنف و بوسائل الإرهاب المسلح تحول دون ضمان تنمية الأوطان وتطور حياة الشعوب ورفاهيتها  لذا فالضرورة أصبحت تستدعي محاربتها بعدما أصبح الأمر يتعلق بإزهاق أرواح أبرياء وبمستقبل أسر وعائلات وجدت نفسها في طريق التيه و الضياع .
من الفضيلة الاعتراف أولا بجملة من الأمور كانت وراء وجود العالم العربي و الإسلامي في خانة الباحث عن أمنه الفكري ومنها ما يلي : 
*  أن الإنتاج الفكري في بعض المجتمعات العربية هو إنتاج "صناعي " ليس أصيلا ، بمعنى أنه لم يتخلص بعد من رواسب الماضي والمقصود آثار التبعية الفكرية و اللسانية  إلى درجة أن الكثير من المقررات الدراسية تم إعدادها اعتمادا على مصادر غير وطنية وبالتالي لم تخدم الواقع ولم تحم الأمن الفكري لأجيال عديدة لأن المنطلقات لم تكن خالصة ومستقلة فتضاربت المفاهيم واختلطت المصطلحات وبرزت مرجعيات ذات مرتكزات دخيلة انعكست في صورة مواقف متطرفة غريبة عن ما رسخ في فكر و عقيدة المجتمعات العربية و الإسلامية بل وليس لها أي امتداد تاريخي رافق وجود هذه المجتمعات .
*  كان هناك ضعفا في مواجهة ظاهرة التطرف بعدما اكتفى العلماء إلى المسارعة بالتبرؤ من أفكاره  وتبرئة الإسلام منه ولكن دون الكشف الكامل عن كل جوانب هذا الفكر الدخيل وبواعثه وفضح هشاشة أسانيده وتفنيد مرجعيته ، إذ لم يبادر العلماء من البداية إلى توضيح مفاهيم الجهاد الحق و الاستشهاد و الحاكمية والتمكين لدين الله و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ومفهوم الولاء و الولاية والأمة .. أي لم يجتهد علماء المسلمين ومن البداية بتفكيك شفرات المرجعيات الدينية وما تحمله من اجتهادات وفتاوى التكفير الباطلة .
*  يرتبط الأمن الفكري إلى أبعد الحدود في أي مجتمع إسلامي بالمرجعية الدينية ، ومن علامات اضطراب هذا المجتمع الابتعاد عن مرجعية الاعتدال وهو ما يؤدي إلى بروز التطرف الديني و الفكر التكفيري الناتج في حقيقية الأمر عن التعصب وإلغاء الآخر، ومن أبرز سمات هذا الفكر أنه قائم على التأويل المتطرف والمبالغ في تشدده لنصوص الشريعة والمخالف لوقائع التاريخ الإسلامي ولنهج السلف الصالح إلى درجة تكاد تلامس حدود التفسير الباطل ، لقد تمادى الفكر التكفيري والمتطرف في غيه وضلاله إلى أن أصبح يتغذى حتى من الإشاعة التي من البديهي والمنتظر أن لا تحمل سوى الفهم الخاطئ وعن سوء النية وسابق القصد للإساءة  للدين من خلال التأويلات الباطلة لمقاصد شريعته ، في مقابل ذلك لم يتجاوز رد فعل الخطاب الديني لدى من تحلوا بالشجاعة وتحملوا مسؤولياتهم في تبرئة الدين حدود الانفعالية بل وكثير ما اتسم بالعاطفية  إذ ركز معظمهم على مسألة إدانة التكفير وبيان العقاب الشديد الذي سيلقاه من يفسد في الأرض و يروع المسلمين ، و بالنهاية تبلور الأمر في صورة حملات تكفير ولكن في شكل متبادل .
*  شجعت ظاهرة انحسار دور العلماء على لجوء أنصاف المتعلمين إلى استيراد مناهج خاصة بممارسة الدين هي في حقيقتها أصلح للبيئة التي نشأت فيها وألصق بأعراف المناطق التي ترعرعت فيها و أوفق لطباع المجتمعات التي أفتى علماؤها بمقتضاها هذا في مقابل حملة نشيطة يقودها من يسعى أن يكون في مجتمعه ذا تميز وصدارة لإحياء من بطون الكتب فقها لم يعد صالحا للعصر الذي نعيشه وإحياء فتاوى مهجورة وأقوال مرجوحة ليقوي من الآراء ضعيفها وليصحح من الأقوال سقيمها فبرزت في غفلة من العلماء فتاوى غذت الشعور باللاأمن الفكري ،لأن الفكر المتطرف المتصلب ينتعش في فضاء الجهل الذي يحرم صاحبه  من القدرة على التمييز بين الخطاب الديني المتطرف الخاطئ وبين الخطاب الديني المعتدل الصحيح .
*  إذا جاز لنا القول بأن الفكر الديني المتطرف قد شاع بكل سفور بعد مروره بمرحلة السرية التي فرضتها قيود أنظمة يسارية اشتراكية وعلمانية لسنوات  طويلة لم تكن ترغب خلالها في رؤية أي تأثير ديني يمكن أن يعوق توجهها الجامح نحو الإفراط في رسم معالم مجتمع علماني فان هذا السفور أحدث رد فعل بنفس طابع القوة في المغالاة ولكن طبيعي بالاتجاه المعاكس في شكل تيار فكري مضاد وطوفان تكفيري جارف تهاوى أمامه الفكر الديني الصائب وغابت الوسطية و الاعتدال وتحول النقاش السياسي بين أنصار التيارين المتضادين إلى لغة عنف متبادل وتحولت المسالة كلها إلى قضية وجود ترتبط بإلغاء الآخر للأسف داخل الأسرة الوطنية الواحدة .
*  إن الصدع الناتج عن تفكك نسيج الوحدة الوطنية داخل البلد الواحد لم ينتظر طويلا حتى اتسعت شقوقه في الجدران الدفاعية للأمة بسبب غياب الوعي بأن الأمن مسؤولية الجميع أي تتحملها كل مؤسسات الدولة وبخاصة منها تلك التي تساهم في تشكيل الذهنية العامة وتصنع الرأي العام وتبث الحس المدني وتقوم بتوجيه السلوك الفردي والجماعي بما يتوافق مع المصلحة الوطنية ، وهذا الغياب أدى إلى عدم إحساس كل فرد في المجتمع بأن منظومته الأخلاقية و القانونية و الفكرية فعلا متماسكة ومتناسقة بل باتت مضطربة ومهزوزة لا تبعث على التوثب للانتصار لقضاياها ، فكان أن فشل كل جهد لاحتواء التطرف من أصوله الفكرية قبل أن يترجم إلى فعل هدام ويتحول إلى سلوك معادي لواقع حياة الأمة و مستقبلها .
والآن ، كيف يمكن مواجهة تحديات هذا الواقع الأليم ؟  وما هي مساحة الهامش المتاح للحركة الواعية لاحتواء نتائج غياب الوعي بفضائل الحوار والتشاور؟  وما هي طبيعة ووسائل الجهود الممكنة للقضاء على ظاهرة التطرف الفكري ؟  أرجو أن تكون مثل هذه التساؤلات من باب الأمل و ليس التمني ، فالأمل هو ما تحبه النفس وتحرص على تحقيقه ، أما من يتوقف عند حدود التمني فهو من فاته حصول شيء كان يتطلع إليه بشغف ، والأمل يكون مع ما تقدم له سبب ، ولكن مع طول أمد الأمل يخشى أن تكون النتيجة الوقوع في أسر أحلام اليقظة ، وعليه فالسرعة في وضع خارطة طريق ذات إجراءات عملية وموضوعية تكون قابلة فعلا للتطبيق تصبح أكثر من ضرورية حتى لا تتحول الأوضاع إلى       " فرجة سياسية "  أو  " دراما احتفالية "   إذ لا يخفى أن إطالة أمد حدوث التغيير هي سياسة يطبقها بعض أصحاب القرار للاستمتاع بظاهرة التقرب إليهم وللحصول على المزيد من الطاعة و الولاء والمساندة هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لضرب الخصوم بعضهم ببعض بمزايدة كل طرف على الطرف الآخر في دعم السلطة فينحرف بهم الطريق ويعيش كل منهم محنة عاشق تائه بين أقاصي الإبداع في التعبير عن مظاهر الخضوع  ويرى أن التميز هو الحافز الأساسي الذي يبعده عن التشابه مع الآخرين  ليبق فريدا ومتفردا بحب ورضا السلطة عنه ، مثل هذه الأوضاع واقع لا مفر من الاعتراف به ذلك إلى حين أن يثبت التاريخ أن حركته هي الأقوى .
لاشك أن الاحتماء بالتاريخ هي الأرضية الموحدة لجهود التأمين الفكري وخاصة العربي و الإسلامي لمواجهة الطوفان الفكري المضاد ، ولكن حتى هذه " الأرضية التاريخية"  المأمولة يقتضي الأمر تنزيهها أولا من ما لحق بها من تحريف و تزوير وما علق بها من تأويلات مغلوطة وتفسيرات خاطئة ومن ما أصابها من روايات متناقضة ومتضاربة ، فالتاريخ هو وقائع و أحداث وشخصيات صنعت المواقف والبحث فيها هو كالبحث عن الحكمة الكامنة في أصل الفكرة حيث يعيش الباحث في التاريخ الحياة في البعد الثالث للمساهمة في تقوية ثقافة الأمة ذلك أن قوة الثقافة ليس في تنوعها فحسب بل وفي عمقها التاريخي .
إن عملية تحديد المكونات الدينية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الإعلامية تعتبر عملية ضرورية تمهيدا للانطلاق في عمل تصحيحي جاد على مستوى كل من هذه المكونات من أجل توحيد مرجعيته فالمساجد ومؤسسات التربية والتعليم و التعليم العالي ومراكز الثقافة ودور النشر والصحافة و الإذاعة و التلفزيون .. كلها مدعوة لمواجهة التطرف بجميع أشكاله و ألوانه إلا أن تحقيق هذا الدور مرهون بمدى تعميق التعاون و التشاور بين مختلف المؤسسات و الهيئات سواء على المستوى الداخلي الوطني أو المستويين العربي و الإسلامي لتعميم ثقافة الأمن الفكري في جميع مخططات المؤسسات المكلفة بإعداد الإنسان وصناعة الأفكار ، ومن هنا تكتسي عملية تحديد مكونات المجتمع الفاعلة  ثم توحيد مرجعيتها أولا ضرورتها القصوى وأهميتها البالغة .
طبيعي أن تبادر المؤسسات الدينية بتأسيس المجالات الجادة للتفكير في الاقتراحات العملية الممكنة لتحصين المجتمع من مد التكفير و المذاهب الدخيلة ومن كافة أشكال الأعمال الإرهابية فكرية كانت أو مسلحة وأن تجتهد في تلمس سبل التأسيس لتصور متكامل عن مؤسسات الفتوى ومعاهد تخريج الأئمة  ، والمشاركة الإعلامية في الفضائيات و الصحف و الإذاعة ولرسم معالم دور النشر ومنابر مناقشة الأفكار وما إلى ذلك من تجارب الأمم ومن هدى التفكير العلمي المنهجي من أجل توقيف حملة تعمد ترويج الأفكار التكفيرية بالصيغ التبريرية ، وتأسيس هيئات إعلامية وعلمية مختصة لتأمين الأفكار، فمعالجة الظاهرة تبدأ بمعالجة ثقافة التطرف وتفكيك أسانيد الفكر المنحرف القائمة على النظرة المتشددة إلى الدين و التراث والرأي الآخر .
هناك حاجة ملحة لتشكيل وعي بأهمية إدراج مادة أسباب التطرف الفكري في المنظومة التربوية تستند إلى  ضرورة إبعاد خصوصيات الوطن العربي والإسلامي شرقه و غربه عن إستراتيجية الأمن الفكري وتعنى بتجنب نشر الخلافات بين المذاهب الدينية ، وتفسح المجال لثقافة الحوار وتفتح أبواب النقاش في وسائل الإعلام ، هذا وتشكل جلسات " المناظرات" حول الأفكار وأيضا حول رسم الاستراتيجيات أداة تعليمية وتربوية هامة لأنها تستهدف العقول وترسخ طرق و مهارات التفكير الناقد ، وهي أفضل مجال  للتدريب على حرية الكلمة و المناقشة الحرة وتعلم احترام الرأي الآخر وتعلم المسامحة و التفهم والعلم و المنطق والإحساس بالمسؤولية والانتماء إلى ما يؤمن به الفرد والانفتاح والتعامل أيضا مع المجتمعات الأخرى ، إن هدف التناظر تدريب النشء من التلاميذ والطلاب على التعامل الواقعي مع كافة الأحداث التي يمكن أن يتعرضوا إليها عبر مسيرة حياتهم العلمية والمهنية وعلى النظر بعمق في مختلف القضايا ودفع الطلاب إلى التعامل بايجابية متفحصة مع الأحداث بما يؤهلهم للدفاع الواعي عن قضاياهم الاجتماعية  ، تلك هي الأفكار التي ينبغي أن تسود و أن تقود .
هناك من يتشدد في أنه لا يمكن مناقشة مفهوم الأمن الفكري بمعزل عن تناول الانعكاسات التي تترتب عن غياب الأمن المادي، ويؤكد أنصار هذا الرأي أن الأمن المادي هو المفتاح أو الحل ، أي لابد من وجود قوة تردع المعتدين على حرمة النفوس ، وأنه من شروط تحقيق الأمن الفكري توفر أمن عام بكل أنواعه يساهم في تنظيم الحياة ويجنب المجتمع وقوع الأسوأ ، بل ويدعوا أصحاب هذا الرأي إلى التأكيد على ضرورة تشديد العقوبة على من عادى مجتمعه استنادا إلى أنه لولا الإيلام في العقوبة لما كان هناك ردع
إن الإفراط في الاهتمام بنشر العلوم الشرعية على حساب العلوم الكونية بل واعتبار العلوم الكونية حراما قد أدى في بعض المجتمعات إلى بروز طائفتين متنافرتين لأن  لكل طائفة منهما منهاجها أي أسلوبها في الحياة ونظامها الأخلاقي والاجتماعي والسياسي على أساس أن المنهاج يعني الطريقة أو الشريعة ، كما أن لكل طائفة منهجها الذي هو مجرد طريقة في الاستدلال أقرب إلى طريقة النظر إلى موضوع ما ، الفئة الأولى ترى ضرورة تسـبيق العلوم الشرعية أولا حتى لا يخرج علمها الكوني لاحقا عن حدود أركان هذا الإيمان ، وهي ترى أن العقلانية ليست دائما هي الحل فهي إذ تساهم في فهم الحياة وخلق التفاهم والتواصل إلا أنها تخطيء كثيرا عندما تتعرض إلى قضايا الإيمان وما يتعلق به من غيبيات حيث تقوم بإعطاء تفسيرات غير موضوعية بل أقرب إلى الإساءة و الازدراء من الأديان ، والفئة الثانية تعمد إلى تسبيق العلوم الكونية أولا حتى إذا ما أصابها قبس من الإيمان يكون إيمانها على أساس بصير وينطلق موقفها من أن لكل علم منهاجه الخاص الذي تفرضه طبيعة موضوعه ، وأن المنهج أو الطريقة لاحقة للعمل العلمي وليست سابقة عليه ،  وكما يبدو فالعلاقة بين الفئتين فعلا هي علاقة تنافر أزلي بمعنى علاقة خلاف  وليس مجرد اختلاف بينهما في الرؤى و التصورات ، خلاف أدى إلى بروز معالم صراع وجود إذ أصبح بقاء أحدهما مؤثرا وحيدا في تشكيل الفكر الإنساني ورسم الطريق لتوجهاته مرهونا بزوال الآخر لأن الأمر أصبح  يتعلق ببساطة بمشروع مجتمع إما إسلامي قح أو علماني بحت لأن كلا منهما يستند إلى مرجعية تختلف كلية عن الأخرى ، ولأن المتفق عليه أن المنهج و الموضوع شيئا واحدا بمعنى أنه لا يوجد منهج مستقل عن الموضوع لأن المنهج موضوع متحقق والموضوع منهج مطبق والوعي متحد بهما معا ، وأن الموضوع يفرض منهجه من ذاته والمنهج يفرض موضوعه من ذاته أيضا ،  فمن هنا ظهرت قناعة أكيدة تفرض الأولوية التي يجب أن تضعها  كل طائفة وتحددها في حاجتها الملحة إلى حماية أمنها الفكري ، كما ظهرت بالقدر نفسه من الإلحاح أهمية تحرك أولي الأمر في حالة حدوث انحراف فكري ثم ضرورة توكيل سلطة رادعة لمحاربة الذين يعتدون على القيم و المبادئ الأساسية التي تشكل جوهر الأمن الفكري لكل طائفة ، ولعل الانحرافات التي حدثت في تعامل كل فريق مع طبيعة هذا الوضع هو ما زاد في شدة الأزمة على النحو إلى آلت إليه حاليا .
لاشك أن الفعل الثقافي يمنح المثقفين الوجود و الهوية و القدرة على فهم طبيعة النفس البشرية وحقائق الكون  أسرار الحياة والكائنات ، والبعد الثقافي مطلوب وجوده لتطوير الحياة الإبداعية ومد جسور التواصل الفكري ، وبديهي أنه عندما يحمل المثقف رؤية معينة تجاه وضعا ما ترتسم فيه علامات الاختلال وأن يلجأ من أجل تغييره إلى العمل والفعل الثقافي وأن يواجه في سبيل ذلك الصعاب ويتحدى العراقيل فهذا دوره ألطلائعي ، ولكن أن يغيب الدافع الثقافي فذلك ما يجعل المثقف ينسحب من الحياة الثقافية ويفسح بالتالي المجال أما م الرداءة ، إن سبب ما أدى بالفكر المنظر للإرهاب الفكري أو المسلح إلى الزعم بأن مرجعيته إسلامية هو الانحسار الحاصل في  دور المدارس والمعاهد المتخصصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية وتراجع دورها في صنع المفاهيم وتحديد المصطلحات وغرس القيم والأفكار الصحيحة لتحصين المجتمع سواء من التطرف الديني أو الغلو العلماني أيضا ، وقد قابل هذا الانحسار تطورا في الحركة المذهبية وتعدد المرجعيات الروحية في الزوايا الدينية والطرق الصوفية وأثرت تأثيرا بالغا في مسألة ضمان بقاء الأمن الفكري بعيدا عن التشتت المفضي تلقائيا إلى التباعد والتنافر.. والعداوة  ،  ومن تلك التأثيرات تعثر فكرة  " حوار الثقافات  " أو الدعوة إلى  " حوار الحضارات "  أو النداء إلى إقامة  "  تقارب الحضارات "  وبالرغم من أن الحوار في حد ذاته فعل إنساني نبيل ومطلوب إلا أن طريقة  تناول المسألة من منظور أن الثقافة تعبيرا عن هوية الإنسان وأن الهوية تختلف من حضارة إلى أخرى قد أدى إلى بروز التناقضات إذ حدثت إشكالية فرضت نفسها كضرورة لحماية الأمن الفكري ضد تهديدات الغزو الثقافي الأجنبي وهي مخاطر مناورات الاستلاب العقلي وذوبان الهوية  وانعكاسات ظاهرة الاغتراب عن أصالة وهوية الشعوب وطمس الحضارات فتطور موازين القوى بين الحضارات أدى إلى افتعال التبريرات وتسويقها عالميا من طرف القوى الكبيرة لإقصاء الطرف الآخر ولتسهيل إعادة انتشار هذه القوى في العالم لرسم معالم خريطة  الجغرافيا السياسية  في إطار ترتيب عالمي جديد ، وذلك ما  قاد فيما بعد ـ و كنتيجة طبيعية ـ  إلى غلبة فكر المؤامرة عند كل حديث عن التعاون الثقافي بين الأمم أو عن ضرورة تقارب الحضارات .. وهو ما  أدى لاحقا إلى مزيد من الانغلاق ومن انسداد قنوات الاتصال ثم إلى غياب الحوار وهكذا انقلب الحال من الحديث المتفائل المفعم بالآمال في تحقيق الهدف من الحوار لإقامة ما يمكن اعتبارها " حضارة عالمية جديدة " إلى الحديث عن " صدام الحضارات " والخطر الكبير الذي يشكله على السلم والأمن في العالم ،  والحقيقة  أن الصراع هو صراع مصالح وأهداف معينة تختفي وراء حوار الحضارات والأديان والثقافات .... ، إن ما يتناهى إلى علمنا حول انعقاد بعض الملتقيات والندوات التي تصدر عنها توجيه الدعوات من أجل تحقيق التقارب بين الشعوب على اختلاف ثقافاتها أو حتى ما يكتب من مقالات مطولة حول أسس و فضائل حوار الحضارات هو ليس أكثر من مجرد استغلال سياسي بنكهة الأنانية لمعطى ثقافي وإنساني نبيل لتحقيق أهداف اقتصادية احتكارية ،  أو إن شئت قل أنها كزيارة يقوم بها مريض إلى طبيب نفسي لأن الطبيب عادة يستمع إلى المريض أكثر من ما يتحدث إليه ، أو كمثل زوجة تبحث عن زوجها .. أو عن حائط مبكى !!

CONVERSATION

0 comments: