صوت صارخ في الصندوق/ جواد بولس

لم أقامر ولم آتِ بالعجب عندما كتبت قبل أكثر من شهر وجزمت أن قادة الأحزاب العربية والحركات الشعبية الموسمية، الرفيعة منها، العارضة والعريضة، لن تجتمع في حزب واحد ولا حتى في اثنين.
كتبت ذلك لأنني، كما كثير منكم، أعرف ما في البئر، فهو في ديارنا مكشوف ينضح بما فيه.
اليوم ونحن نشهد أنّ لا خطبة ولا قِران وما كان سوف يكون، نستطيع أن نخلص إلى أنّ كثيرين ممن بارزوا في ساحات النخوة واستقدموا الوحدة وأعلوها كأيقونة وتميمة من شأنها أن تردّ عين الشرّ عنّا وأن تحمينا أولادًا لقبيلة واحدة، يجمعنا دمنا وتاريخنا وعاداتنا، كانوا بالحقيقة صنّاع شعارات وبناة أوهام، ستؤدي إلى سد شهيّة ناخبين وإعراضهم عن المشاركة فيما كان يسمّى في الماضي القريب "عرسًا" ولو من باب الاستنفار والتمني.
نحن قوم ما زالت أكثريتنا تنزع للشعار العصبوي الحماسي. ثقافتنا وليدة دمع وعيون: عباءة عزوة، عار وعصا. قوم يستشعرون أن السيف قريب من مهاوي القرط، ويدرك أن الدبيب المتسلل في صدوره ليس من وجع ناي وسيتكشّف، في الثالث والعشرين من كانون الثاني القادم، عن "ابن ليل" يتأهب منتفضًا يقضقض أنيابًا "كقضقضة المقرور أرعده البرد".
كل من يفقه في بديهيّات العمل السياسي يعرف أنها كانت محاولات زائفة لتسجيل مواقف تستثير طبيعتنا كقوم تعيش أكثريّته على "فورة الدم" "ويا باطل"، وهي بذلك كانت نداءات قبلية لا تمت لطبيعة ما هو مفروض ومستوجب أن يكون في عملية سياسية حديثة تسمّى انتخابات حرّة ديمقراطية يشارك فيها الذكر والأنثى على حد سواء وتختار الواحدة منّا من يتكيّف وإيمانها ومبادئها ومن سيضمن لها وله مستقبلًا حرّا كريمًا، فيه ستكون هي سيّدة اللحم والآه والرايات وسيضمن هو حرية الشك ولون الوجع. نداءاتكم يا سادة هي أقرب "لدبّات الصوت" في لغة فلاحينا. منطقها تأسّس على فرضية ضحلة تفيد بأن اليهود، كلّ اليهود، هم أعداؤنا، وعلينا لذلك، نحن العرب، كل العرب، أن ننزل ساحات الوغى وراء عناتيرنا ولنضربهم بسجيل وفكوك حميرنا ولنقضي عليهم، وإلّا من تخلّف وخرج عن طاعة شيوخنا خارجيٌّ هو وسقيط ومن لم "يفزع" ببسوسنا ناشز رعديد.
كلّنا يقرأ معطيات الواقع الإسرائيلي كما يتمظهر في الآونة الأخيرة. كلنا يشخّص فداحة الخطر ومكامنه، كما تتجسّد فيما يتشكّل من قوى سياسية إسرائيلية تؤمن بضرورة ضربنا وقمعنا كأقلية قومية، لكنها تؤمن كذلك بضرورة ضرب "أعدائها" من أفراد وجماعات يهودية، وهذه بدأت بدورها تشعر أنّها قريبة لأفواه تلك الوحوش، والفارق بينها وبين العرب سيكون لمظة ولقمة. لذا فإن حربي حرب هؤلاء المهدَّدين، خندقي خندقهم، قوّتي بهم ومعهم، كما في الناصرة كذلك في تل أبيب. واجبي أن أجدهم، أن أصلَهم وأن أتحالف معهم. ومن أراد أن يستثنيهم لا يسعى إلى وحدة تعادل قوة. من يستعديهم لن يحظى بخندق آمن ومرساة. معهم نحن قوة قد توقف الوحش وتنتصر عليه. معهم البقاء أمر جائز يسير، وبدونهم ذلك شأن "كبارح الأروى" عسير.
قراءة الواقع السياسي الإسرائيلي على حقيقته هي واجب وطني وضرورة وجودية. الاختلاف كان وسيبقى حول تشخيص المرض ولكنّه أعمق وأكبر حول أساليب العلاج وأنواع الدواء والعبر.
يكرّر بعض دعاة الوحدة القبلية العربية بيننا ما تعلمناه من ذلك الشيخ الذي دنا أجله وخاف على أولاده من أعدائهم من أبناء القبائل الأخرى. جمعهم وجمع معهم رزمة من عيدان وشرع يسحب عودًا عودًا ويطلب من أحد أبنائه أن يكسره. فعلوا كلّهم وكسروا الأعواد فرادى دونما جهد. ثم أحضر رزمة عيدان مترابطة بشدّة موثوقة، وطلب من أبنائه أن يحاولوا كسرها. حاولوا واحدًا واحدًا ولم يفلحوا. تنهّد وأوصاهم أن يكونوا كرزمة العيدان هذه، على قلب واحد وعصا واحدة. خنجر واحد وعدو واحد. وحدتكم قوتكم قال لهم وقضى. هكذا أرادنا قادتنا أن نعتبر من زمن العصا والغزو الذي به إمّا أن تكون سيّدًا وإمّا ظلًا على كثبان العار والجحيم. فات قادتنا أن ذلك الشيخ العربي قضى وترك وراءه ذرّية ما زالت تتقاتل على بئر ماء/نفط وعلى ناقة/أنثى وعلى ولي عهد ومشيخة. قضى ذلك الشيخ والسكين ما زالت، من زمن عمر إلى عهد فيصل، أهم من صناديق الاقتراع جميعها فهي التي تملّك وهي التي تحجب السلطان والأمل.
قوتكم مصيركم هو الدرس والمذهب. قوتكم نعم ويبقى السؤال ما هي هذه القوة؟ وتبقى الفطنة بشعب يخلق عناصر قوته. فمثل ذلك الشيخ تعلمنا عن شيخ جليل آخر دنا أجله فطلب حضور أولاده. جاءوه. جاء برزمة العيدان ووزّعها فرادى فكسر كل ولد عودًا. جاء برزمة عيدان مربوطة بحزم ومتانة وقدّمها لأوَّلِهم فضربها. صمدت العيدان وتأذت كفه. هكذا فعل الثاني والثالث، الى أن جاء رابعهم وكان قد استعد للمنازلة وتتلمذ على يد تجربة وقدوة وامتحان. ضرب الرزمة بمهارة وحنكة. كسرها وسلمت يده. نظر الشيخ في وجوه أبنائه، تبسّم. ظهرت على وجهه علامات راحة وطمأنينة، أخذ نفسًا عميقًا، حدّق في الأفق وقال: الآن أرحل وأنا مطمئن عليكم، أعداؤكم لن ينالوا منكم. معكم العقل، الحكمة والإصرار، أنتم أقوياء.
قوتّكم ليست في عدد جيادكم/كراسيكم، فذلك الزمن ولّى وانقضى. وحدتكم وهمٌ. في كانون القادم سأصوّت لمستقبلي ومستقبل أولادي. سأصوّت لمن يسعى ليبقيني حرًا وقويًا. عددكم لا يعنيني، إلا إذا زادنا حصانة ودراية ودربة، فأنا لست ابن قبيلة وسليل عصا وخنجر، أنا سيّدُ أنا. وصوتي سيبقى صارخًا.

CONVERSATION

0 comments: