حادثة الدُّقّي/ نعمان عبد القادر

قصة قصيرة أتذكر أنني حين كنت أتقدّمُ مساءَ ذات يومٍ ربيعيٍّ باتجاه الفندق الذي كنتُ أقيمُ فيه، في شارع الدّقي، أحد شوارع القاهرة، قبل ثمانية أعوامٍ، إذ استوقفني رجلٌ طويل القامة، يبدو أنه قد تجاوز الخمسين عامًا على حسب تقديري، يحملُ على كاهلهِ آلةً، بدائيةَ الصُّنعِ، تُستعملُ لسَنِّ السكاكينِ، مصنوعةً في أساسِها من دولابِ دراجةٍ هوائيّةٍ، وعلى وجهه أماراتُ الإعياء والبؤس. اقترب مني على استحياءٍ وابتدرني بابتسامةٍ قائلاً:
-  أتسمح لي أن آخذ من وقت حضرتكَ قليلًا؟
أجبتهُ بإيماءةٍ بسبّابتي وبصوتٍ منخفضٍ إجابةَ الرفضِ لشدةِ حرصي منَ المتسوّلين، والمحتالين، وأصحاب "الإكراميّة يا بيه" وغيرهم لِما سمعتهُ ممَّنْ سبقني في زيارة مصر حتّى لا أقعَ ضحيةً لأحدهم. ثم وجدتُني أحثُّ نفسيَ السيرَ إرضاءً لرغبتي في النأْيِ عنهُ خصوصًا عندما رأيتهُ يسيرُ في نفس الاتجاه الّذي كنتُ أسيرُ فيه حتّى لا يحاولَ تكرارَ سؤالهَ عليَّ.. لكنْ لم تُطاوعني نفسي على متابعةِ سيْري حينَ رأيتُه يسيرُ مكسوفَ الخاطرِ مطأطيءَ الرأسِ، فدفعني الفضولُ إلى الإبطاءِ في السيرِ. ثمَّ لحقَ بي وسألتهُ:
- تفضّلْ يا سيدي! هلْ لكَ من حاجةٍ أقضيها لك؟ وماذا تريدُ؟
- يا سيدي! واللهِ إنّي لأخجلُ أن أمدَّ يدي للسؤالِ.. وأنا رجلٌ أعملُ في سَنِّ السّكاكينِ للناسِ بهذه الآلة التي أحملها، وقد طفتُ المدينة بطولها وعرضها ساعاتٍ طويلةً هذا النهار أبحثُ بها عن رزقي لعلّي أشتري به زادًا أقتاتُ منهُ وأهلي ولكنْ دون جدوى، وها قد دفعتني الحاجةُ إليكَ لتساعدَني إنْ تكرَّمتَ عليَّ أن تشتريَ لأولادي خبزًا ولبنًا وفولاً.. وأنتَ  كريمٌ.
- ولكن لماذا لا تبحث عن عمل آخرَ؟
- أيّ عملٍ أبحثُ عنه يا سيّدي! جزى الله الساسة والسياسيين خير الجزاء. البلاد كلّها فسادٌ في فسادٍ. البطالة والفقر والمحسوبيّات تنخر في جسد الأمة.. والاقتصادُ ضعيفٌ رغم الامكانيّات الهائلة في جميع المجالات.. ونحن وقعنا ضحية هذا الفساد الإداري والمالي.
طلبتُ منه أن يختارَ ما يطيب لهُ من الحانوت المجاور، فاكتفى بالخبز واللبن والفول ثمّ مددتُ يدي في جيبي وأخرجت له مبلغًا من النقود حاول أن يتمنّع من استلامه، وبعد إلحاحي الطويل تناوله مني فانبرى يكيل لي من خير الدعوات التي يحفظها. وازدادَ حماسًا بعدما عرف أنني من سكّانِ أكناف بيت المقدسِ، وجعل يقبّلُ يديّ وأنا أتمنّعُ وكأنني ملاكٌ نزلَ من السماء. وقبل أن يودّعني استشففتُ عينيهِ فرأيتهما مترقرقتين تحملان كلّ معاني الهموم والشّقاء..
وبعدما وصلتُ الفندق وتناولتُ عشائي، توجهت في الحال إلى صالة الضيوف وجلستُ لأحتسي فنجانًا من القهوة، فوجدتُ مجموعةً من الشّباب لم تكن لديّ نسبةٌ، ولوْ ضئيلة، من الشكّ بأنهم خليجيّون تحلّقوا في الزّاوية اليمنى تبدو عليهم أمارات السُّكْرِ.. نظرتُ إليهم فرأيتُ بعضهم يلفّ أوراقًا نقديّة أمريكيّة، بعد حَشْوِها تبغًا نَتَفوهُ منْ سجائرَ كانتْ أمامهمْ.. صنعوا منها سجائر جديدة وراحوا يدخّنون في نشوةٍ غريبةٍ، مصحوبةٍ بقهقهات عاليةٍ وأغانٍ كلاسيكيّةٍ متقطّعةٍ.. أحسستُ باختناقٍ وتقززٍ شديدين، وخرجتُ من الفندق لأتنفس هواءً نقيًا ثمّ أتلمّسُ سبلاً للتخفيف بها عن غضبي، لكنني لم أتمالك نفسي فتقيّأتُ كلّ ما تناولته في عشائي قرب قارعة الطريق..    

CONVERSATION

0 comments: