ثلاثة شعراء من شباب الحلة/ د. عدنان الظاهر

 في أحد أيام شهر شباط من هذا العام وفي جلسة في مقهى الجندول على ضفة نهر الفرات في مدينة الحلة تعرّفتُ على ثلاثة من شباب شعرائها هم :
1 ـ كاظم خنجر
2 ـ علي تاج الدين
3 ـ أحمد ضياء هادي تاج الدين
قدّمَ لي كلٌّ منهم وحسب طلبي واحدةً من قصائدهم مطبوعة على الكومبيوتر . كما طلب الشاعر موفق أبو خمرة منّي أنْ أقدّمهم للقرّاء كنماذج للشعراء الشباب في الحلة .
لم يكتب الشاعران الأول والثاني موجز تأريخ حياتيهما لكنَّ الثالث كتبَ .
أبدأ بالشاعر الأول لأنني قابتله في مقهى الجندول مرتين ثم أجرى معي مقابلة مطوّلة في راديو صوت الشعب في الحلة. إنه السيد كاظم خنجر .
عنوان قصيدته هو ( الحبُّ صابونٌ على لحيةِ البدوي ). عنوان يُثير فضولَ القارئ لأنه غير متوقع بل وغير مألوف . ما علاقة الحب بالبدوي وبلحية البدوي ؟ ما الذي يربطُ الرومانس العصري بعالم البداوة ونحن في أوائل القرن الحادي والعشرين ؟ قبل أنْ أعرضَ نماذجَ من هذه القصيد لا بدَّ من تثبيت ما يلي :
أولاً / في كاظم خنجر شاعرية واضحة لكنها لم تنضجْ بعدُ. لغته سليمة متينة لا عوَجّ فيها ولا عيوب نحوية جديّة .
ثانياً / إنه يجهدُ نفسه في محاولة كتابة قصيدة نثر بعيداً عن عالمي عروض الفراهيدي وشعر التفعيلة الحر . لكنه يفرط في التغريب والشذوذ حاسباً أنَّ ذلك من شروط ومتطلبات قصيدة النثر الحديثة. ليس الأمرُ كذلك يا سيّد كاظم .. ليس من شروط قصيدة النثر لصق المتضادات اللغوية أو المعنوية لصقاً عشوائياً مُفرطاً في العشوائية والإنحراف. قصيدة النثر محسوبة على الشعر وللشعر قوانينه وآلياته ومنطقه الخاص الذي يتحرك ويتغيّر من شاعر إلى آخر. أنصحك سيد كاظم أنْ تقرأ المزيد من شعر النثر ودونك المواقع طافحة بهذا النمط من فن الكتابة المُسمّى قصيدة النثر. أعرضُ نماذجَ من قصيدة " الحبُّ صابونٌ على لحيةِ البدوي " :
(( رجَّ الفجرُ قوقعةَ الأفق
فمدّتْ بَطنَها الشمسُ
كحٍلزونٍ على خوصةِ الصبحِ
لتتخثرَ أفياءُ الظُهرِ كمشطِ ذُبابٍ على شعرِ المزابلْ
أعرجُ يتوكأُ الغروبَ على الأقطابِ
كحافرٍ عُتّقتْ فيهِ مساميرُ زنوجي
فهامتْ تنحرُ مشاعِلُهم جلدَ الخيمة
لتسيلَ هجرتي ليلاً على زجاجِ السماءِ
فيا ناقتي
يا مجدافيَ المحروقُ
الحربُ طابوقٌ من وحلِ الدم
تشّلهُ أجفاني كي أغرسَ عينيَّ بأصابعهم
كي ترفسَ أصداغي تحت ركلِ الثأرِ
فهل الحصادُ هو أنْ يحلقَ القحطُ قميصَ العُشبِ المترقرقِ فوق نهديها ))؟
....
بدأ الشاعرُ هذه القصيدة بداية ناجحة موفّقة [[ رجَّ الفجرُ قوقعةَ الأفقِ ]] ...  فجمعُ صوتي حرف الجيم في رجَّ الفجرُ كبّرَ تأثير المقدمة في السمع والإيحاء المطلوب من كل شعر كأنه الصوت وصداه أو الهارموني بلغة الموسيقى. ولكنْ .. ما قال الشاعر بعد هذا التقديم الدرامي الناجح ؟ تلك هي المشكلة. لم أجد في الأبيات السبعة التالية أثراً قوياً يُشير إلى شعر أو أي شئٍ يمتُّ للشعر بصلة ! الألفاظ قوية محّكمة لكنَّ وضعها في الأماكن التي جاءت فيها عطّل فيها قوة الإيحاء وأفقدها قدرة الشعر على التواصل مع القارئ. أقرأها فأتصور نفسي ألوك وأجترُّ قطعة نحاس بارد. بلى .. فيها صور كثيرة ولكنها صور مفتعلة مصففة بعناية ولكنْ لا حياةَ فيها. الكلام الذي لا يوحي ولا يُشيرُ ولا يُثير الدهشة والإستغراب لا يمكنُ أنْ يُحسب على الشعر. الشاعر هو خير ناقد لشعره .. لذا فعليه يقع عبء التثمين والتقويم والقدرة على التمييز بين الكلام الجيّد والكلام الفارغ من أي معنى.  الشاعر الحق ليس فقط ذاك الذي يقولُ شعراً مقبولاً إنما هو ذاك الذي يتنبأ بجوهر ونوع وعمق ردة فعل قارئه على ما قال من شعر. هذا هو القسطاس الحرج والمستقيم : قدرة مزدوجة على القول وعلى التنبؤ. الشعراء يتفاوتون في مواقفهم وإدراكهم وعمق فهمهم لهذه المعادلة ، معادلة القسطاس المستقيم. وإلا يظلُّ الشاعر يدور في فراغ .. يتكلم ولكنْ مع نفسه ولا مَنْ يسمعه. الشاعر ليس في نفسه حسبُ .. إنما هو في الآخر : المتلقي.
مشكلة أخرى وجدتها في هذه القصيدة. الشاعر كرر فيها " لأنَّ " ليشرح بها فكرةً أو أمراً ما. الشعر لا يحتمل تقديم تفسيرات وشروح. لندع القارئ يستنتج ويحلل ويستوحي ويفسر كما يشاء وكما تمليه عليه ثقافته الشعرية وإحساسه الظاهر والباطن . التفسير والفهم والإستلهام هناك .. في خفايا وظلمات الباطن. هناك الشعر الحقيقي. أمثلة من هذه القصيدة :
ـ أفمٌ هنا، فمُ إنسان ؟
ـ ذُبِحَ خلفَ أكوامِ القئ (( لأنَّ )) الخبزَ
كان بلا غازِ السكوت.
هذه (( أنَّ )) زائدة بل وضارة شأنها شأن الزائدة الدوديّة بل وأكثر شرّاً.
مثال آخر جاء مباشرةً بعد المثال الأول :
ـ فمُ شجرة ؟
ـ القيحُ حريقٌ في اللثةِ (( لأنَّ )) الدواءَ فجٌّ
هذه (( أنَّ )) أخرى لا تنسجم مع جوهر وطبيعة الشعر .. تُثقله وتُسئ إليه.
في الصفحة الثانية ومضات خاطفة توحي بشعر جيّد فالشاعر كاظم يجوّدُ حين يقترب من الأنثى ... الحبيبة ... وهذا محكُّ الشباب وفتوّة الصبى الفائر. ليته ينصرف لعالم الرومانس ويتخذه إختصاصاً رئيساً ومنهجاً لموهبته الشعرية فحرامٌ أنْ يبددها في عبث لا جدوى منه.
مثال من شعره في الرومانس :
(( شعثاءَ شابتْ حراشفُ قلبي في طشتِ الصمتِ
أنا الملتوي تحت مِعطفِ الإعتكافِ فجَرَبُ الحظِّ يغلي في رأسي
وحبّكِ شَفَةٌ مقصوصةٌ تدقُّ على طبلِ عمري المخروقِ
فأُجلّدُ بنارِ العَتمةِ هودجَ أحداقي )) ....
يحس القارئ في هذا المقطع بنوع من الدفء المتعاطف مع ميل الشاعر الشاب لفتاة يقاسي مما يشبه اليأس منها. هنا شعر حقيقي. ثمَّ .. كرر في البيت الأول حرف الشين أربع مرات فعلام يدلُ ذلك ؟ نواصل الجولة في عالم رومانس السيد كاظم :
(( لئلاّ يشهقُ سمعي في مرارةِ بسمتكِ ثانيةً
لئلاّ إصبعُكِ ـ هذا الرذاذُ الناضجُ على سهوبِ كفّي ـ
أبصرهُ مُقيّداً بخاتمٍ من أنيابهمْ
لئلاّ يُهدرُ رملُ بكائي وأتلمّسُكِ تنتشرين كرحيلٍ
على فوّهاتِ نوافذهمْ المُتسخة بالأفخاذ
فهنا الشفقُ مِدخنةٌ تسعلُ بشهيقِ الرؤيا
تكبسُ على رؤوسِ المطارقِ رئتي )).
كررَ هنا " لئلاّ " ثلاث مراتٍ كأنه وضع ثلاث نقاط سود على صفحة بيضاء خالصة البياض. مع ذلك يجدُ قارئ هذا النص شعراً يفرض نفسه عليه ويطلع عليه كرؤوس مُدببة تتقد بالنار والحرارة العالية. كإنها إبرٌ مغروسة في قلب وحس الشاعر. إنه يُعاني من تجربة حب فاشل عبّر عن فشله هذا بكيفيات قوية تصرخ وتندب وتُحذّر مَن أحبَّ من مغبّة السقوط بقبول رجل آخر لا يستحقها أبداً. إصبع حبيبته محاط بأنياب وليس بخاتم زواج. وشفق سمائه دخان وسُعال ورئته تسحقها المطارق. أبدع الشاعر هنا في تصوير حاله وحالة اليأس التي هو فيها بجُمل قوية ألفاظها ناطقة بالألم والإحباط وبشئ من السخط على دنياه.
لم يأتِ الشاعر فيما تبّقى من هذه القصيدة بجديد مُغرٍ يفخرُ الشعر به رغم قوة عضلات وصوت الكلمات التي تشبه ضجّة مطارق أسواق الصفّارين .. فضلاً عن تكريره لحرف واو العطف الذي يجعل الجُمل الشعرية مترهلة و( شحمها ورمٌ ) كما قال المتنبي :
أُعيذها نَظراتٍ منكَ صادقةً
أنْ تحسبَ الشحمَ فيمن شحمُهُ وّرَمُ
الخلاصة : كاظم خنجر مشروع شعري ممتاز وخامة رصينة مأمولة لكنْ تنقصه التجربة وممارسة الشعر بصبر وتروٍ ومتابعة ما يُنشر من شعر قصائد النثر ولا بأس من الإطلاع العميق على تجارب شعر التفعيلة فمن رحم هذا النوع من الشعر ظهرت قصيدة النثر على مسرحنا المعاصر.
أعجبتني بشكل خاص لغته وقدراته غير المحدودة على التعبير عمّا في أعمق أعماقه من مشاعر وهواجس وعواطف ومخاوف .  في باطن نفسه صوتٌ قويٌّ يشبه ناقوس التحذير وفي هذا الباطن منجم عميق متحرك دافق يفور دوماً ولا يستقر ولا يستكين. في دواخله تمرّد وعناصر ثورة تهدد وتتمنى أنْ تنفّذ هذا التهديد. وجدتُ فيه ميلاً قويّاً لإيجاد المنافذ المناسبة للخروج [[ من القوّة إلى الفعل ]] كما يقول الفلاسفة. إذا تمكّنَ من ناصية الشعر سيجد هذه المنافذ !
إنتهت جولتي مع شعر السيد كاظم خنجر والخناجر تُخيفني حتى لو لم تؤذيني.
الآن أنا في مواجهة شاعرين آخرين من فتية الحلة أبدأ بالأول فليصبر الثاني .
الأول بعد كاظم هو السيدعلي تاج الدين .. ما شاء الله .. تاج ودين !
الشاعر علي تاج الدين
قصيدته بعنوان " النجمة الأحادية ". عنوان مُغرٍ يُثيرُ الفضول.
علي تاج الدين شاعر حلاّوي  شاب آخر يتميّز بجرأة مندفعة للأمام  وبشخصية شعرية قوية شديدة الوضوح . ألفاظه حلوة ولغته سليمة. بدأ قصيدته " النجمة الأحادية " بكلمة ( البلاّعة ) : البلاّعة تُشلّه تنورتها وتختل تحت أقرب مزبلة . الفعلان تُشلّه وتخّتل هما فعلان حلاّويان بامتياز . تُشلّه أي ترفع ثوبها إلى ما تحت الركبتين . و الفعل تخّتل أي تختبئ. يبدو أنَّ هذه الظاهرة تمثل ميلاً عاماً لدى الشاعر لتوظيف عبارات دارجة لم يوظّفها في عالم الشعر أحدٌ قبله .
قصيدته تنتمي لفن قصائد النثر .. وهو متمكن من هذا الفن يُجيد الخوض في معامعه ودروبه وثقافته الواضحة تُيسّر له هذا الخوض. جرأته النفسية في أعلى أطوارها وتلك سمة ضرورية لكل شاعر فالتردد عدو الشعر والشعراء. جُمله في الغالب طويلة والمفروض أنْ يقطّعها ويوزعها على السطور وهذه مسألة فنية تحتاج إلى تمارين وتدريب وصبر مناسب فالعجلة من أخطر الأمور على الشعراء. هاكم مفتتح قصيدته :
(( البلاّعة تُشلّهُ تنورتها وتخّتلُ تحت أقرب مزبلةٍ لو رأتْ الغيومَ مهرولةً تجرُّ أهوارَ العمارة لمدينتنا التي تمددَ على أحلامها الإسلامُ لابساً قُبّعة التقدّم ! )). لا يتحمل القارئ جملة بهذا الطول. لا أفهم مناسبة ذكر مدينة العمارة وأهوار العمارة إلاّ إذا افترضتُ أنَّ هذه البلاّعة هي إمرأة معروفة بالبلع ( ما تبلع ؟ ) وإنها في الأصل من مدينة العمارة أو من أهوار العمارة. لماذا تختبئ هذه المرأة إذا رأت الغيوم مهرولة ؟ قد يفهم مثقفو الحلة مغزى هذه الجُمل وقد أفهم إشاراته القوية لظاهرة تمدد الإسلام السياسي في كافة مناحي ومفاصل الدولة والمجتمع ولكن يبقى تساؤلي عن سر ومعنى ورمز البلاّعة . هل رأس الحكومة المحلية في محافظة بابل شخص من هناك من العمارة ومن بعض أهوارها ؟ عرفت في زيارتي الأخيرة لمدينة الحلة أنَّ أغلب أعضاء مجلس محافظة بابل هم من أطراف الحلة وضواحيها وأطرافها العشائرية بما فيهم المحافظ نفسه.
مقطع جيّد رغم التطرّف في التغريب .. وهذه ظاهرة واسعة الإنتشار اليوم بين أغلبِ شعراء قصيدة النثر حاسبين خطأً أنَّ ذلك من مستلزمات ومن شروط قصيدة النثر . نقرأ في هذا المقطع :
(( فجلست الأسماكُ رِجلاً على رِجلٍ على بقايا الجسد الكافرِ بالكاكاو الصاعدِ من بين كهوف التبليطِ الجديد
مُغنيةً مَطَر
مطرـ مطرـ مطر
وفي العراق طينٌ يلعبُ بنا منذُ الطفولة )).
الجملة الأولى كذلك مُفرِطة بالطول ثمَّ ، ما علاقة الكاكاو بتبليط شوارع الحلة السئ على ما يبدو ؟ الأسماك إشارة إلى الطوفان الذي يحلُّ بالمدن العراقية بعد كل مطرة قوية كما حصل في آواخر شهر كانون الثاني من هذا العام. ومع الطوفان يأتي السمك ! واضح في هذا المقطع أنَّ الشاعر يعرف قصيدة السيّاب " أنشودة المطر " التي جاء فيها [ وفي العراق جوع ]. يكشف الشاعر لنا الكثير فيما يلي وفيما يلي شكوى وتذمّر قويّان مما تعاني مدينته من سوء أوضاع ونقص في الخَدَمات يقابلُ ذلك صعودٌ مُذهلٌ في حجم وسعة التطرّف في ممارسة الطقوس الدينية. نقرأ :
(( أعبرُ نصفَ اليومِ في الشارعِ الذي طارتْ عنهُ الأرصفةُ
ذاهباً لدائرتنا التي تعلّقتْ بها لافتةُ نعيي وأنا أتسكّعُ قافزاً بين المتظاهرين من ضفادع آلافِ المستنقعاتِ في وسطِ الجنّة التي ماعَ فيها الضميرُ الذي طالما لطمَ راقصاً على الحُسين .
ـ حاذرْ ، المؤتُ زؤام !!
ـ هههههههههه الموتُ كآخرِ كأسٍ في الليلِ
والعيشُ كأوّلِ رشفةِ قَدحٍ للشاي
والحبُّ يتجبجبُ
طاووسٌ ينزلُ عميقاً في حفراتِ القلبِ
سمراءٌ هذي الروبةُ تطمسُ فيها أفراحُ الخيارةِ
فتنتحرُ غَرَقاً أُنُوثتُها مُلبيّةً نداءَ الوحلِ
لتكونَ عروسَ الخيسةِ
وتشتعلُ بلا نفطٍ في قلبي الصوبةُ مهلهلةً فتيلتها التي ياما دخلتْ في البلاّعة )).
ما زال هذا الشاعر يُصرُّ على توظيف كلمات دارجة شعبية تعرفها الحلة وهو أحد أبنائها المخلصين. فالفعل القوي " يتجبجب " مثلاً كثير الشيوع في مدينة الحلة ومن بين معانيه التردد مع شئ من الحذر والخشية ولا أعرف أصله ولا كيف اشتقّه الحلاويون. الجبجبة مصدره ولكن من أين أتى الفعلُ ومصدره ؟ يا أهل اللغة أفتونا . الحب يتجبجب أي يتردد ولا يحسم، يقدّم رجلاً ويسحب أخرى. ثم .. يُشير السيد علي تاج الدين إلى مناسبة سُكر بذكرهِ المزّة الضرورية للسكرة وهي مزّة يعرفها جيّداً أهل النشعات والليالي الملاح اللامعات .. أعني مزّة اليوكورت ( الروبة ) مع مكعبات الخُيار . ثمّة كلمة أخرى من الكلمات الدارجة هي ( الخيسة ) ... عروس الخيسة. من هي هذه العروس ؟  بدأ بحب متردد وصفه بطاووس يحفر له مكاناً في قلبه ثم يقفز من هذا الجو أو يتممه بجو آخر قريب منه هو جو السُكر هرباً من حب غير أكيد وانتشاءً بأخيلة من وهم قد توحي له أنه منتصرٌ بحبه هذا لا مَحالة. يبدو أنه مع ذلك أو بعد ذلك يائس من هذا الحب الذي يتركه محترقاً مثل مدفأة ( صوبة ) خالية من وقود النفط فوقودها دم قلب هذا المحب اليائس الخاسر . يعود الشاعر في آخر جولة الليل هذه .. يعود لحسبة البلاّعة إيّاها ! يجد فتيلة مدفأته قد ابتلعتها البلاّعة كما يبتلع الحوتُ القمرَ حسب الأسطورة الشعبية التي تعرفها الحلة حيث كنا نهزج زمن طفولتنا إذا ما خسف القمر : يا حوتهْ يا بلاّعة / هدّي كمرنهْ بساعة / وإنْ جانْ ما تهدّينهْ / أدكلج بالصينية. أي أيتها الحوتة حرّري، أتركي قمرنا لا تبتلعيه وإلاّ سأدق على الصينية لأحدثَ ضجيجاً يُخيفكِ. هل أمامنا بلاّعتان لا واحدة ، واجهنا الأولى في مطلع هذه القصيدة بينا الثانية واجهتنا في آخر السطر الأخير من القصيدة.
هل قصد بها البالوعة ، بالوعة تصريف المياء الآسنة في البيوت والشوارع ؟ البالوعة والبلاّعة كلتاهما مشتقتان من الفعل بلعَ يبلعُ .. يبتلعُ.
جميل شعر السيد علي تاج الدين رغم ميله ـ هو الآخر ـ للإسراف في التغريب لكنه ، كما إخالُ ، إسراف يستجيب لحاجات نفسية غائرة العمق وأخرى فنيّة نجح الشاعر في التعبير الرمزي والفولكلوري عنهما كليهما. هذا شاعر يبشّر بالكثير شرط أنْ يتعلم فن توزيع جُمله ومقاطعه الشعرية وأرى درب قصيدة النثر مبسوطاً أمامه يُرحّب به شاعراً له مستقبل مرموق.
أخيراً مع ثالثهم السيد أحمد ضياء هادي تاج الدين وقصيدته ( يا شيش الشاورما ).
شيش كَصْ بالعراقي ، شاورما بالتركي والسوري .. أهي وليمة تفضّل بها السيد أحمد ضياء على أصحابه من روّاد مقهى الجندول في الحلة الفيحاء ؟ كلاّ ، لم يدعُ أحداً لأية وليمة. هل يعاني من جوع مُزمن حتى أضحى لا يفارقه منظر شيش الكص .. يحلم به وبرؤيته أو له فيه مقاصد ومآرب أخرى لا يحزرها إلاّ الراسخون في العلم ؟ سنرى .. وإنَّ غداً لناظره قريبُ .
قرأتُ هذه القصيدة فخرجتُ منها بإنطباع مفاده أنَّ الشاعر يشكو ويصرخ صرخاتٍ مكتومة كأنه يصرخ في غيابة جب عميق فممَ يشكو ولِمَ كل هذا الصُراخ ؟ بدأ بشيش شاورما لكنه ، وقد أنهكه الصُراخ ، وجد نفسه وجهاً لوجه أمام هُدهد يخاطبه ويُناجيه ويبثه شكواه فهل أسعفه هذا الطير الذي كان يوماً مُخبِراً سريّاً وساعيَ  بريدٍ وسفيراً للنوايا الخبيثة طائراً ومتجوّلاً بين بلقيس سبأ اليمن وملك الجن سُليمان في القدس ؟ كلاَ .. ظلَّ الهُدهُدُ صامتاً كأنْه غيرَ مُهتمٍ بهموم صاحبه أو كأنه لم يسمع ما قال . أيُّ هُدهدٍ هذا ؟ ما سرُّ اختيار الشاعر لهذا المخلوق الطائر دون سواه من بين سائر المخلوقات ؟ أترك الشاعرَ وهدهده وأعود لصاحبنا شيش الدونر كِباب بالفرنجاوي فأسألُ الشاعرَ تُرى ، أهو من لحم العجل أو من لحم الدجاج ؟ أنت لم تُفصح يا أيها الشاعر الحُلي وعهدي بأهل الحلة كرماء لا يبخلون بجواب. سأتفحّص مع القارئ ما كتب الشاعر في مطلع قصيدته ليُخففَ عني عبءَ همي الثقيل جرّاء عجزي عن فهم محتويات وجزئيات هذا النوع من الشعر . عفواً .. ليس شرطاً أنْ أفهم ولكن أريد أنْ أستنتج  وأستوحي لأقارن وأُحلّق في مديات أخرى أبعد لا تمتُ لهذه القصيدة بصلة. أريد أنْ أثقف نفسي بأمور جديدة ... أريدُ أنْ أوسّع مداركي وأنوّع ثقافتي وأجدد مشاعري أي أريدُ أنْ أكونَ إنساناً آخرَ غير ما كنته قبل قراءتي لهذه القصيدة أو لسواها. الثقافةُ الجديدة تخلقني من جديد. أنقلُ ما كتب أحمد ضياء تاج الدين كما هو .. وقد أُشيرُ لما أرى من أخطاء أو أصححها من غير إشارة لذلك :
(( رائحةُ الدم
تنبشُ في أشلاءِ مقابركَ
جثثا تمطرك النجوم
نفاياتُ الخوف تستل منك الحياة
ملأت يديك من قذارتهم
علك تسمع ما يرتد من صدأ
ضاجعت
شاورما اللحوم لأنها
حكمة موتانا
إذ بها سترسم وجهي
فوق وجوه الآخرين ،
أيها البشرُ
أخطاؤكم ارموها بردائي
سأتكفل به
النار تقضم جسدي
دعوها
سنانُ أبوابكَ يا كلكامش
فحوى مداخل القبور
مثل اليتامى نشحذها
يأكلُ بكارة نسيانه
الناجم عن صمته أمام الموقد
فحولة شياطين الصمون
تكب براعم دورتها
إذ لا يبقى إلاّ أنت ))
عزيزي القارئ الذي رافقتني في رحلة المصائب هذه ... ما فهمتَ ؟ أسعفني ولك الرحمة كل الرحمة ! هل كنتَ مع كلكامش حين قتل خمبابا في جبال الأرز ؟ آخ منك يا شيش الشاورما ألف آخ !
نعم ، في هذا الكلام شئ من خامات الشعرية ولكنَّ الشاعر أخفق كما أحسب في إخراجها الإخراج الذي يستحقها ويُعجب القارئ . الخامات الجيدة يلزمها مهندس معماري مُختص ليقيمَ منها صرحاً جميلاً عصرياً يستهوي العقول والقلوب معاً . بسبب هذه الثغرات والنواقص يأتي النقدُ الجارحُ لقصيدة النثر ولمن يكتبها . يُخاطبُ الشاعرُ مّنْ في قصيدته هذه .. يخاطب نفسه أم إنه يخاطب القارئ ؟ أنا كقارئ لم أشعر ولم أقتنع أنه يخاطبني ويوجّه كلامه لي . يخاطب نفسه أم شيش الشاورما ؟
(( أيها البشرُ
أخطاؤكم ارموها بردائي
سأتكفّلُ بها
النارُ تقضمُ جسدي )) ..
هذا كلام جميل وموقف إخلاقي يذكّرنا بمواقف المسيح عيسى إبن مريم الذي يمسح بدمه خطايا بني الإنسان كما قرأنا في الأناجيل . لكنَّ الشاعرَ يقفز فجأة فينقلنا معه إلى كلكامش فما مناسبة وعلامَ هذه القفزة وما علاقة هذا بالمسيح ؟
(( دعوها
سنانُ أبوابكَ يا كلكامش
فحوى مداخل القبور
مثل اليتامى نشحذها
يأكل بكارة نسيانه
الناجم عن صمته أمام المواقد
فحولة شياطين الصمّون ))
نقلنا السيد أحمد ضياء من مشاهد الدم ولحوم الشاورما إلى الزمن السومري وملحمة كلكامش حتى بلغنا معه مرحلة الصمون ! تمّت المائدة وأعدّها الشاعرُ إعداداً جيداً فهلمَّ يا أهل الحلة وهلّمَ يا موفّق أبو خُمرة يا مَنْ ترعى وتتعهد الشعراء الشباب فطوبى لجهودك مربيّاً وموجّهاً ومثالاً للشعراء . ثمّةَ سؤال ساذج : من هو الذي يأكل بكارة نسيانه الناجم عن صمته أمام المواقد .. الصمون ؟ ما علاقة الصمون بسنان وأبواب كلكامش ومداخل القبور واليتامى ؟ لا يوحي لي هذا الكلام بشئ ذي بال ولا أُحسُّ أني أمام شعر أو أي ضرب آخر من فنون القول .. مع إعتذاري . أنقلُ مقطعاً آخرَ وأحاول فكَّ رموزه العصيّة على الفهم :
(( أبحثُ عنك في فراغ ملذّاتي
مُذْ نشرتَ جروح النار
فوق ميادين الليل
مُذ كنت تدعك بأوهام
راسك بامواج البحري
كانت جدائلك الرماية
تحتاج إلى مساعدة
في فك عقدة نومك
سباتك ظلام يحدق بالعدم ))
هل المخاطب هنا هو كلكامش الذي مرَّ ذِكره قبل 14 سطراً أم أنه يخاطبُ نفسه ؟ ثُمَّ .. هل سقطت كلمات في (( مذ كنت تدعك بأوهام راسك بامواج البحري كانت جدائلك الرماية )) أم بالعكس ، فيها زيادة ؟
في ختام قصيدته يخاطب الشاعرُ الهدهد أربع مرات ( يا هُدهد ) يطلب منه في إحداها أنْ يأتيه بخبر عليم [[ شبيه من هذا ورد في القرآن على لسان الهدهد يخاطبُ سُليمانَ في سورة النمل / الآية 22 : فمكثَ غيرَ بعيدٍ فقال أحَطتُ بما لم تُحِطْ به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين ]] . ويطلب منه في أخرى أنْ يُخبر كلكامش بما يرى أو ما لا يرى إشارة للقول المعروف عن هذا بأنه " هو الذي رأى كل شئ " كما جاء في بعض ألواح ملحمته المعروفة.
الشاعر متمكن من لغته وهي لغة لا شكَّ سليمة . ثم إنه يُجيد حبك الجمل حتى ولو لم يربطها رابط في المعنى .. وإنه يتجنب إستخدام واو العطف وتلك ميزة أراها كبيرة وضرورية للشعر إلاّ عند الضرورات القصوى .
نصيحة أخيرة للسيد أحمد تاج الدين : خففْ من غلوائك في التعتيم والإسراف في التغريب واترك في شعرك بصيصاً من الضوء وبعض الأبواب المفتوحة كي يدخل منها القارئ إلى عوالمك النفسية والشعرية وإلاّ ستظل غريباً وبعيداً عنه ولا من شئ يربطك به وتلكم مصيبة لأنَّ التواصل المستمر بين الشاعر وقارئه ضرورة ماسّة لا غِنى عنها مهما كانت الأسباب . ماذا يتبقى منك لي حين أفقد صلتي بك ؟
السيرة الذاتية للشاعر
1 ـ أحمد ضياء هادي تاج الدين
2 ـ مواليد الحلة 1/1/1990
3 ـ طالب في كلية الفنون الجميلة المرحلة الرابعة قسم المسرح ـ تمثيل
4 ـ عضو في نادي الشعر في بابل
5 ـ عضو مشارك في إتحاد وكتّاب بابل
6 ـ نشر في بعض الصحف المحلية
7 ـ شارك في بعض المهرجانات داخل وخارج الحلة
8 ـ موبايل 07800932202 

CONVERSATION

0 comments: