الدولة العبيدية (الحلقة الرابعة)/ محمد فاروق الإمام

أسباب نجاح الدعوة العبيدية في المغرب

بعد الضعف والوهن الذي أصاب الدولة العباسية في بغداد وتناهُشْ الموالي من الأتراك السلطة واستئثارهم بها دون الخليفة، حتى غدوا هم الذين يعزلون وينصبون ويقتلون، وبالتالي سرى المرض إلى باقي أجزاء هذه الخلافة المترامية الأطراف الممتدة من أسوار الصين شرقاً وحتى المحيط الأطلسي غرباً، مما جعل هذه الدولة العظيمة مرتعاً للمتنافسين على مراكز القرار فيها، بحيث لم يعد الخليفة بمقدوره الدفاع عن حاضرة دولته بغداد، وقد هددها "الزنج" وأضرموا نار الثورة التي دامت أربع عشرة سنة (255-270هـ/868-883م) عرّضوا فيها كيان الدولة للخطر، كما أصبحت دلتا الفرات تحت رحمة العصابات من قطاع الطرق الذين أدخلوا الفزع والهلع في قلوب الأهلين، وتعدى بلاؤهم إلى محاصرة أمهات المدن كالبصرة، والأهواز وواسط.
هذه الحالة التي آلت إليها الدولة العباسية تكشف لنا مبلغ الضعف الذي وصلت إليه السلطة المركزية في بغداد، هذه السلطة التي عجزت حتى عن الدفاع عن الولايات المتاخمة لحاضرة الدولة. ومن هنا يتبين لنا مبلغ سهولة نجاح الدعوة العبيدية وإقامة دولة لها في شمال إفريقية البعيدة عن مركز الخلافة، لما أصابها من وهن وضعف وتصارع الأمراء الولاة عليها من قبل بغداد.
وإضافة إلى ما تقدم فإن البربر، على ما هو مشهور عنهم من حب القتال، وما تعودوه من شظف العيش، وما فطروا عليه من عدم حب للانضباط أو خلود للنظام، كانوا دائماً متأهبين للمخاطرة إذا ما عرض لهم باعث يحرك في نفوسهم ما جبلوا عليه من إقدام على المخاطر وركوب متن الأهوال. كل هذه الأحوال وهذه التداعيات جعلت أبا عبد الله الشيعي يجد الأرض الخصبة لنمو دعوته وانتشارها بيسر وسهولة، وخاصة وهو يستثير البربر على الذين اغتصبوا الأمر من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. على حدِّ زعمه.
وعرفنا من خلال ما نقلته لنا كتب التاريخ أن السلام لم تتوطد أركانه بين البربر والعرب النازلين في بلادهم منذ ظهور الإسلام وامتداد فتوحه إلى هذه البلاد.. وقد كان البربر - بلا شك - دون العرب حضارة وثقافة، وقد نظروا إلى العرب نظرهم إلى الغاصب والمستعمر من الرومان والبيزنطيين. فكم من ثورات قادها البربر على العرب أججتها نار العصبية.
ولم تكن الضرائب التي فرضها الأمراء والولاة والتي أثقلت كاهل الأهلين بأقل أهمية مما تقدم، فلم يكن تمرّد الخوارج على السلطة الحاكمة.. إلا لظلمهم وضرائبهم الفادحة وليس مرده خروجا على الدين.
أضف أن العرب عندما دخلوا المغرب فاتحين كان كثير منهم يعاملون البربر على أنهم دونهم في الاحترام والمعاملة وليست معاملة الند للند كما أمر الإسلام.
ولما أرادوا الانتصاف من أمرائهم بثوا شكواهم إلى الخليفة العباسي في بغداد دون أن يروا آذانا صاغية تستمع إلى مظالمهم. فكان كل ذلك مما دفعهم لقبول الدعوة العبيدية، وخاصة أن دعاتها كانوا يتظاهرون بالصلاح والتقشف والتقوى.
وسهلت كل هذه الأمور مجتمعة الطريق للانضمام لأبي عبيد الله الشيعي، الأمر الذي ساعد بالتالي على تأسيس الدولة العبيدية في القيروان.
مما تقدم نستطيع أن ندرك كيف مهدت الأحوال في إفريقية دخول كثير من البربر في حظيرة الدعوة العبيدية، فلا غرو في ذلك فقد وجهت الدعوة عنايتها الكبيرة في تحقيق غايتها وهدفها على يد أبي عبد الله الشيعي، حتى إذا ما وصل إلى بلاد كتامة سنة (288هـ/900م) التي حرثها الحلواني وأبو سفيان من قبله، وجد هذه البلاد ممهدة له. وبالتالي مهد السبيل لعبيد الله المهدي ليظهر في عيون العامة وكأنه المهدي المنتظر حقيقة. 
ولا يفوتنا أن نذكر بالإعجاب صبر وجلد وذكاء وفطنة دعاة العبيدية وهمتهم العالية.. التي كان لها الأثر البعيد في اكتساب ولاء القبائل في المغرب على اختلافها.. ومعونة رجالها الذين عُرفوا بغيرتهم وتعصبهم، فكان اجتماع كل هذه الأسباب فرصة ذهبية انتهزها العبيديون لتأسيس دولتهم في شمال إفريقية. 
أحوال الدولة العبيدية
بعد أن استتب الأمر لعبيد الله المهدي في القيروان سنة (297هـ/909م) قسَّم أعمال دولته على رؤساء قبيلة كتامة البربرية، الذين ساعدوه في إقامة دولته ثم دوَّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقرت قدمه في هذه البلاد. وراح عبيد الله في رسم خططه لمدِّ سلطانه إلى مصر، كما بدأ على الفور بمد نفوذه في جميع بلاد المغرب، فعزل الولاة ونصَّب ولاة من أتباع مذهبه.. بما في ذلك ولاية صقلية وجنوب إيطاليا.
وبعد أن أقدم عبيد الله على قتل داعيته الكبير أبو عبد الله الشيعي سنة (298هـ/910م).. قام باستبدال العديد من ولاته، ثم ما لبثت العديد من القبائل البربرية أن أعلنت الثورة انتقاماً لأبي عبد الله سنة (299هـ/911م) وكان في مقدمتهم أهل زناتة وتاهرت وكتامة، كما ثار أهل طرابلس في سنة (300هـ/912م)، وثار أهل صقلية، وكاتبوا الخليفة العباسي "المقتدر" ودانوا له بالطاعة. إلا أن عبيد الله ظفر أخيراً على كل المعارضين والثائرين. 
ومات عبيد الله المهدي والبلاد في حروب وثورات سنة (322هـ/933م)، وبويع ولده أبو القاسم محمد بن عبيد الله، وتلقب بالقائم بأمر الله، وكان في الثالثة والأربعين من عمره، فأخفى وفاة أبيه خوفاً من انتقاض البلاد عليه. فلما تمكن وفرغ من جميع ما يريد أظهر موت أبيه.
وفي سنة "333هـ/944م" اشتدت شوكة أبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي بإفريقية وكثر أتباعه وهزم الجيوش التي التقى بها، ونزل على "رقادة" في مئة ألف مقاتل، وملك القيروان وهزم العساكر العبيدية، فلجأ القائم بأمر الله وأتباعه إلى "المهدية" وتحصنوا بها.
وحاصر أبو يزيد المهدية عدة شهور "جمادي الثانية 333-صفر 334هـ/شباط 945-أيلول 945م" حتى كثر الجوع والغلاء بها. ودخلت سنة "334هـ/945م"، والقتال مستمر بين القائم وبين أبي يزيد، فكانت بينهما حروب آلت إلى رحيله عن المهدية في "سادس صفر منه سنة 334هـ/17 أيلول 945م". ونزل على القيروان، وقوي القائم، وبعث إلى البلاد العمال وطردوا أصحاب أبي يزيد وأخذوهم، فتفرق الناس عن أبي يزيد.
وتوفي القائم بأمر الله في "الثالث عشر من شوال سنة 334هـ/18 أيار 946م"، فكتم خليفته المنصور بالله موته ولم يظهر عليه حزناً، خوفاً من أن يتصل ذلك بأبي يزيد، وهو بالقرب منه، فأبقى الأمور على حالها وأكثر العطايا والصلات. واستفتح أمره بإطلاق المحبوسين الذين حبسهم أبوه بسبب القدح في الدولة. فلما كانت سنة "336هـ/937م" أظهر المنصور موت أبيه بعد أن تمكن من القضاء على أبي يزيد الخارجي. حيث بنى في موضع الوقعة التي انتصر فيها على أبي يزيد مدينة سماها "المنصورية"، فاستوطنها وبنى بها قصراً، ثم خرج في "شهر رمضان سنة 341هـ/كانون الثاني 953م" من المنصورية إلى "جلولا" يتنزه بها ومعه حظية كان مغرما بها، فأمطر الله عليهم برداً كثيراً وسلَّط عليهم ريحاً عظيماً فأوهى جسمه ومات أكثر من كان معه، فعاد إلى المنصورية فاعتل من تلك الريح ومات "يوم الجمعة آخر شوال سنة 341هـ/19آذار 953م"، ودفن بالمهدية.
وقام بعده ولده أبو تميم معد.. الملقب بالمعز لدين الله.. بتسلم مقاليد الأمور، وتمكن من المغرب قاطبة حيث دخلت سائر البلاد في طاعته، ثم جهز غلامه "جوهر" ومعه جيش كبير لفتح مصر في "الرابع عشر من ربيع الأول سنة 358هـ/27 شباط 969م". وكان بمصر في تلك السنة غلاء عظيم ووباء، حتى قيل إنه مات من المصريين في تلك السنة نحو "600,000" إنسان. فتسلم جوهر مصر في "الثاني عشر من شعبان 358هـ/1تموز 969م"، ثم بنى القاهرة وقام باستدعاء المعز إلى مصر بعد أن استقام الأمر له في مصر والحجاز والشام، وإقامة الدعوة له بتلك الديار. فخلَّف المعز على إفريقية "بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي"، وخرج متوجهاً إلى مصر في "شهر شوال سنة 361هـ/تموز 972م" وقد حمل معه الأموال الهائلة.
يتبع

CONVERSATION

0 comments: