المصالحـــة التاريخية/ صبحة بغورة

  انتشر في القاموس السياسي العربي منذ فترة مصطلح " المصالحة " على نحو واسع في العديد من البلدان العربية و الإسلامية وهو مسعى نبيل يهدف إلى إزالة ما علق من شوائب في العلاقة بين طرفين أو أكثر والى احتواء مشكلة قبل تفاقمها ووضع معالجات سياسية أو قانونية لقضية ما ، وينصرف مفهوم المصالحة إلى فرضية وجود خلافات في الرأي والموقف أدت إلى حدوث تباعد ونفور ما لبث أن تطور مع الوقت إلى حالة عداء يحمل مخاطر حقيقية على السلم و الأمن ويهدد نسيج الوحدة الوطنية بالتفكك وفي أقصى الحالات بالانفصال مما يستوجب التدخل السياسي من خلال جهود حميدة لإحداث فرص للالتقاء بين الفرقاء ومن ثمة التفكير في تقريب وجهات النظر وتصحيح الأوضاع لعودة الوئام .
بديهي إذن عند حديثنا عن المصالحة افتراض أن هناك مشكلة كانت عميقة بحيث لم تثن السنون أحد من أطرافها لإبداء تنازل عن موقفه يسمح لاحقا بفتح مجالات الاتصال و التواصل ، وأن استمرار الوضع المتشنج قد أضر كثيرا بالمصالح العليا للوطن وأبقي على حالة الشد والجذب بين طرفي المشكلة على نحو معطل لجهود مسيرة التطور والتنمية ، وأن الضرورة الوطنية قد اقتضت تقارب المتخاصمين صونا لاعتبارات السيادة و الاستقرار من محاولات التدخل الخارجي .
تستند جهود المصالحة إلى إلمام  كافي بكل جوانب المشكلة التي قد تكون أسباب أدت  بشكل مباشر إلى حدوث الخلافات أو أسباب التي غذت بشكل غير مباشر عوامل فقدان المصداقية وأخرى ساهمت في إطالة أمدها من خلال التشدد في المطالب و رفع سقفها تحت دعوى التغيير، وكذلك تقتضي مساعي المصالحة الإدراك العميق بكل العوامل على اختلاف طبيعتها التي شكلت المواقف المتناقضة وبجميع المنطلقات على تباين توجهاتها التي بلورت الآراء المتضاربة، كما تتطلب المصالحة رؤية بصيرة وسياسة حكيمة لجمع الشمل في إطار سياسة تصالحية يلتمس منها مختلف الفرقاء الجدية والصدق على أن تتم عبر مراحل محددة ومعلومة المضمون والمدى بحيث تتحقق في كل مرحلة خطوة مرسومة وفق قاعدة لا غالب و لا مغلوب ، لا فائز و لا خاسر، ولا يهم هنا كم من الوقت الذي تستغرقه جهود المصالحة ولا ينبغي جعل العامل الزمني يبدوـ كما هو الحاصل في كثير من الحالات ـ عامل قيد يثير الاستعجال الذي يؤدي إلى حرق المراحل ، إن أي خطأ في تقدير الموقف التقدير السليم يمكن أن يحدث انتكاسة تكون نتائجها أكثر سلبية وأكبر تأثيرا وعلى رأسها بعث مشاعر عدم الثقة مثلا ، ومع ذلك فلا أحد ينكر أن عامل الوقت من جهة أخرى حيوي و هام وهو قد يلعب في نفس المقام دورا فعالا في حسم الأمور إذا ما أحسن استغلاله وفق متزامنات تفتح المجال لمقايضات سياسية ناجحة تحقق النفع لكل الأطراف ، وكما أن الخلافات لا تنشأ من فراغ بدون أسباب ولا تقع فجأة بدون مقدمات تشير إلى بروز أجواء توتر ناشئ من اختلاف في الرؤى والموقف فكذلك المصالحة التي تهدف إلى رأب صدع بين أطراف اشتدت بينهما العداوة والبغضاء والتي لا يخفى أنه كلما زاد أمدها تجذرت أعمق ، لذلك كان لابد قبل الشروع في الحديث عن  إجراءات مصالحة من تهيئة أجواء سياسية مناسبة ذات أبعاد وطنية تجتمع في النهاية حول أهداف إنسانية سامية تضمن تحقيق الإجماع حولها في أوساط الطبقة السياسية والنخب المثقفة والرأي العام للعمل من أجل ترسيخ عقيدة المصالحة من منطلق أنها ضرورة وطنية تتعلق بمصير أمة ومستقبل شعب ، إن هذه المرحلة دقيقة للغاية إذ لا يجوز الاعتقاد أن الخطاب الرسمي سيكتفي بالتوجه إلى العقول اليقظة بالمنطق فقط فمثل ذلك كان يمكن تداركه في حينه ، بل سيكون عليه مخاطبة النفوس الزكية والقلوب الطاهرة والضمائر الحية في المرتبة الأولى لتجاوز الأحقاد وتضميد الجراح فكثير من الصراعات و النزاعات القديمة تفقد أسباب نشوبها ومبرر استمرارها مع مرور السنين وفي أحيان كثيرة بوفاة أو تنحي من كان على عاتقهم مسؤولية معينة دفعتهم إلى اتخاذ موقف في يوم ما كانوا يعتقدون أنه الصواب في حينه ومع ذلك ظلت الفرقة هي السائدة و بقت القطيعة هي الغالبة على السلوك مع ما فيها من خسارة مؤكدة على كل الأطراف المتخاصمة والغريب أن لا أحد منهم  كان لديه من الشجاعة ما يكفي لتقديم تنازلات لطي صفحة الماضي بكل آلامه ، وعلى العموم فالرأي أن الطرف الأقوى يريد أن يكون منطلق موقفه في مسار المصالحة من موقع مانح العفو فيما سيكون الطرف الأضعف حريصا على أن لا تضعه المصالحة في موقف أقل من صاحب حق تم الاعتراف له به أخيرا ، وتشير تجارب الأمم في مثل هذه الحالات العويصة أن الطرف الأقوى الذي يمكن أن يكون ممثلا في ممثلا في السلطة الحاكمة هو الطرف المؤهل بناء على جملة الالتزامات الأدبية والأخلاقية للدولة للمبادرة بعرض فكرة المصالحة وللشروع فعلا في قيادة مسارها من خلال قانون ينظمها ويحدد شروطها وتبعات الإخلال بها لاحقا على أن يحظى بثقة و تزكية الشعب الذي منه يستمد هذا القانون شرعيته وقوة نفاذه ، وبين الموقفين يبرز اعتبار أساسي ستكون وطأته شديدة على المعنيين به ألا وهم المتسببين في إحداث فتنة الخلافات ونشوب الصراعات السياسية أو المسلحة ،ومفاد هذا الاعتبار هو عدم الجواز لأعمال هؤلاء التي صرفت البلاد و العباد سنينا عن جهود التطور والتنمية أن تكون سبيلا لبناء مجد سياسي لذلك عمدت بعض التجارب التي عالجت مثل هذه المواقف إلى تصنيف المتسببين في الصراعات وتقدير خطورة دورهم بناء على مكانتهم وحجم المسؤولية التي أنيطت بهم وبناء على التصنيف تراوحت ما يمكن تسميته بالمحاذير التي ترقى بعضها إلى رتبة الممنوعات بين الحرمان من الحقوق المدنية والحقوق السياسية كلاهما أو أحدهما لفترة زمنية قد تطول أو تقصر حسب درجة مسؤولية الشخص في سلم اتخاذ القرار، ومثل هذا التصنيف يبلغ درجة عالية من الحساسية قد تثير ردود فعل مناوئة له إن لم يكن مؤسسا على معايير في منتهى الوضوح والموضوعية و الحيادية ، ومع ذلك فلا يتبادر إلى الذهن أن الأمور ستسير ببساطة ما لم تكن الدولة قادرة ماليا وناضجة سياسيا ومتطورة امنيا ، فالإمكانيات المالية الكبيرة تتيح للدولة شراء سلمها الاجتماعي بالتعويضات المناسبة والمنح الإضافية للمتضررين خاصة في حالات النزاع المسلح كما تسمح لها بالانطلاق في مشاريع مختلفة ذات طابع عام أو خاص لتوظيف و تشغيل فئات واسعة من الخصوم وبالتالي إدخالهم في عجلة نشاط المجتمع وإشعارهم بمكانتهم كعناصر حيوية في مجموع الجهد الوطني ، والإجماع السياسي حول هذا المسعى هو الذي يمنح الطمأنينة بجديته ويعطيه الشرعية فالخطاب الرسمي في أعلى هرم السلطة والحكومة مرورا بالتأييد القوي لمجموع الأحزاب السياسية و قوى المجتمع المدني وصولا إلى التزكية الواسعة لممثلي الشعب في البرلمان كل ذلك من شأنه إحداث دفعة قوية مستندة إلى التأييد الشعبي لمواصلة المسعى إلى نهايته دون متاعب يمكن أن تشكل عائقا حقيقيا له ، ويبقى الجانب الأمني المفترض فيه وجود كفاية في الأفراد المؤهلين على أعلى مستوى وفي الوسائل الأمنية المتطورة أمر لا غنى عنه لفرض هيبة الدولة وسلامة المجتمع و أمنه من أي ردود فعل غير مواتية من بعض الأطراف التي قد تستشعر الغبن من نتائج تسوية تمت تحت دعوى المصالحة تكون قد أفقدتها آمالها في أفق الحياة السياسية أو أن تكون غير مستعدة للتنازل عن موقع سياسي احتلته في ظل ظروف سياسية سابقة ولم تبق لها قائمة ومثل هذه المواقف هي في الحقيقة من باب إثبات الوجود فقط للبقاء ضمن الهالة الإعلامية في التناول اليومي للشأن الوطني.. إن السماحة وروح العفو السياسية المؤيدة باختيار شعبي والمستندة إلى قدرات مالية كبيرة واقتصاد قوي والمدعومة بجهاز أمن وطني وكفء هي المفاتيح السحرية لمغاليق الأمور من شأنها احتواء بؤر التوتر السياسي الداخلي ومعالجة آثار التراكمات التاريخية لخصومات ماضية التي يخشى مع بقائها في الذاكرة الجماعية أن تظل جذوتها مشتعلة في النفوس ولا يعلم أحد متى يستعظم شررها .
تكتسي المصالحة التاريخية طابعها السياسي عندما تتعلق بخلافات ماضية غلبت فيها كفة الطرف الأقوى وقع تحت تأثير المبررات التي دعته يوما إلى قهر خصومه حتى من الوطنيين فمثل هذه الأحوال نلمسها كثيرا أثناء ثورات مسلحة أو عقب نزاعات سياسية وعسكرية دامت طويلا ، فحين تتباين الرؤى داخل المعسكر الواحد تجاه أفضل المعالجات من بين البدائل تجاه أزمة ما، وحينما تختلف الآراء إلى درجة الاستقطاب أي تشكيل الأجنحة المعارضة على النحو الذي يهدد التماسك الداخلي لنسيج المقاومة السياسية أو المسلحة تبرز هنا فرضية التهميش والإقصاء.. ثم التصفية ومنها ظهرت مقولة أن الثورة أحيانا تأكل أبناءها ...! إذ لا يترك الحسم المطلوب لأمور مصيرية مجالا للجدل الطويل، فكل طرف حين يسيطر عليه الاعتقاد أنه الأحق بالقيادة سيرى أيضا أنه الأصوب رأيا و الأرشد فكرا و الأنضج موقفا  ثم الأوحد زعامة .. ومنه سيتراءى له في خصومه أنهم "خونة " وذلك بعدما تكون عقلية المؤامرة قد فرضت نفسها عليه و استولت على عقيدته ، مثل هذا الوضع لا يجوز أن يتبادر إلى الذهن أنه سيزول سريعا بعد استقرار الأوضاع بل إن دوامه لفترة طويلة هو الأرجح وسيبقى خصوم الأمس هم الخصوم الدائمين ولن يكون بمقدور هؤلاء البقاء في أوطانهم في كنف الأمن و الطمأنينة فالعادة أن يهجروا إلى دول أخرى وأن لا يعلم بأمر وجودهم فيها إلا القلة المقربة جدا منهم ، وفي نظر السلطات يمثل هؤلاء تهديدا دائما لهم لأنهم سيمارسون المعارضة من الخارج التي تعني أحد الأمرين ، الأول أن الخارج  "الديمقراطي"  لن يمانع شروعهم في نشاطهم السياسي المعارض بل و الاستمرار فيه ولو بأشكال احتجاجية متصاعدة وسيجد الفضوليين من أبناء وطنهم بالذات في هذا النشاط الشجاعة الأدبية التي يفتقدونها فهم يسمعون ما يخالف تماما ما أثقلت به السلطات الحاكمة أذانهم لسنوات وسيعد هؤلاء المعارضين حينها "أبطالا " ، والثاني يتمثل في الاستغلال الخارجي المحتمل لوجوه المعارضة في الخارج كورقة سياسية يمكن الضغط بها لكسب مواقف سياسية معينة .. أو لتغيير النظام ، أو لإسقاط الحكم .
المصالحة التاريخية قد تشمل قضايا اقتصادية و مالية ، فردود فعل بعض الثورات خلال الخمسينات و الستينات من القرن الماضي ضد المستعمر الأجنبي امتدت إلى النيل من كل ما نشأ خلال الفترة الاستعمارية بدون تمييز.. تحت دعوى القضاء على الامبريالية و الإقطاعية .. فكان ما سمي "بالتأميم " بنزع الملكية الصناعية و الزراعية من أصحابها تحت دعوى إقامة النظام الاشتراكي الذي يساوي بين جميع أفراد المجتمع كأناس تأكل لتعيش وفقط ، فاختلط مفهوم المساواة اختلاطا أخل كثيرا بقيم العدل والحق ، وبعدما رجحت التغييرات العالمية خلال التسعينات كفة النظام الاقتصادي الحر الذي كان في الحقيقة سائدا ومسيطرا وتم التأسيس للنظام الرأسمالي في كل دول العالم تقريبا برزت في ظل هذا النظام الدعوات لإرجاع الحقوق إلى مستحقيها وإعادة ما تم تأميمه من مصانع و أراضي وعقارات إلى مالكيها الحقيقيين أو إلى ورثتهم ..وشمل هذا المسعى أيضا حل الأوقاف الأهلية وفتح حرية التصرف فيها أمام أصحابها باستثناء الأوقاف الخيرية طبعا ، وتم وضع هذا المسعى في أدنى مستوى له من الترضية لأنه غفل عن الحقوق في التعويضات التي ترتبت من عوائد الاستغلال طوال سنوات التأميم ولكنه مع ذلك  يعد مصالحة تاريخية ذات طابع اقتصادي تجاوب مع روح العصر ومقتضاياته .
من أشكال المصالحة أيضا ما يأخذ الطابع الحقوقي والاجتماعي  ، فمع هبوب رياح التغيير الديمقراطي بما حملت من ترسيخ للمبادئ العالمية لحقوق الانسان الفردية منها و الجماعية والسياسية منها والمدنية.. تم تغيير النظرة إلى الانسان في الأنظمة الشمولية من الاعتبار المطلق أن الفرد في خدمة المجتمع إلى أن المجتمع أيضا في خدمة الفرد ، أي تم النظر إلى الانسان كقيمة في حد ذاته ، فلم يعد هناك ما يمنع من إبداء الرأي ولو كان مخالف أو معارض ولم يعد الحديث عن المطالبة بحرية التعبير إلا من أساطير الماضي ، إن تصحيح مسار الحكم نحو منح المزيد من الحريات لأفراد المجتمع أي التحول من النظام الديكتاتوري إلى الديمقراطي هو في حد ذاته مصالحة بين النظام السياسي و الرعية ، وليس غريبا والحال هكذا أن ينزعج الحاكم من وقوع اضطرابات عمالية أو احتجاجات نقابية ليس لسبب في ذاتها ولكن لأن حدوثها يعني أن سبل التواصل بالحوار و التشاور بين الجهات الرسمية و عامة الشعب أو ممثليهم لم تكن قائمة أو لم تكن  بالقدر وعلى المستوى الذي يعكس احترام مطالبهم .
تناولنا من خلال كل ما سبق المصالحة كمسعى ينهي آلام فترة ماضية لذلك تم استعمال وصف " التاريخية" كظرف زمني ، ولكن قد نقرأ ونسمع ذات الوصف يطلق على مسعى يجري حاليا بشأن قضية معاصرة تم حسمها بحل جريء و بشكل نهائي يرضي مختلف الأطراف ويتسم بالكثير من التضحية و الإيثار ،مما يجعلنا نصفه بالتاريخي أي أنه سيسجل في التاريخ الوطني أو العالمي والإنساني كقيمة في حد ذاته ،لأن أثره سيمتد لأجيال قادمة ستمتن كثيرا لأصحاب هذا الحل.
في المصالحة دائما كل الخير، والخير خير في ذاته و في وسائله و غاياته ، والمبادرة بالخير من شيم الكرام و النبلاء لا تنتقص من قدر و قيمة المبادرين بها أبدا ، وإذا كان أمرها صادر من طرف السلطات العليا بالبلاد ففي ذلك مغزى عميق لا يدركه من به عقدة نقص ، وعلة نفس ، وسوء تقدير ومثل هؤلاء قد يخضعون صاغرين لمساعي المصالحة في الربع ساعة الأخيرة ، لذلك فلا لوم على ما قد تتضمنه مواثيق المصالحة من بنود ذات الطابع الحذر التي لا يخشاها بالطبع إلا اللئام .

CONVERSATION

0 comments: