بين لعنة الله علينا وعنترة وسياسة البسطال/ الأب يوسف جزراوي


  معظم رؤسائنا العرب لديهم مشكلة في التعاطي مع الغرب واسوق  لكم مثالاً عن اسلوب  تعاطي أحد الرؤساء العرب مع الغرب وتقليده لهم كنت قد طالعته في احد الكتب التي سقطت من ذاكرتي. إذ كان ولعه بالاقتباس الأعمى من الغرب بشكل  لا يعرف الحدود. إذ أنه قرر ذات يوم إلغاء وظيفة "وزير الإعلام" في بلده لأنه لم يشاهد وزيرًا للإعلام في بريطانيا أو فرنسا أو أميركا - وكانت التجربة قصيرة العمر بطبيعة الحال. وهدد ذات يوم نائبًا قاطع حديثه، بأنه سيقترح على مجلس الشعب إنشاء "لجنة للقيم" كالتي شاهدها في الكونغرس الأميركي، وكان يتصور أن مهمة هذه اللجنة مُعاقبة  المُعارضين "المُشاغبين" من النواب! وإنه مُعجب إعجابًا شديدًا بعادة الأميركيين في وضع أقدامهم على مكاتبهم! هكذا قلد وأعجب بابغض العادات التي يقرفها الأمريكان!!
لقد أعجبه كثيرًا وضع الرجل على المكاتب، لكن لم تعجبه قوانين حقوق الإنسان  وقوانين تعدد الاحزاب والحرية المسؤولة في التعبير عن الرأي في امريكا  والغرب. قلّد الأمور السلبية فقط. لقد أحب الإنفتاح والتقليد، لكن ليس الإنفتاح السياسي والإجتماعي والثقافي والتعليمي.... فقد كان إنفتاحًا ديكتاتوريًا، فأول عمل قام به هو زج مُثقفي بلاده في السجون لأنهم إنتقدوه وخالفوه الرأي!! اخذ سلبيات الغرب ولم يتعلم احترام حرية شعبه والصوت المعارض وإنسانية الإنسان في بلده.
شعوبنا تطالب بتغيير الحكام، ولكن هل هذا التغيير مدروس، بحيث لا تصيب بلداننا الفوضى والتسيب....هل الغاية هي ازالة اشخاص وتبديل الوجه فقط.....أم الغاية هي تجديد الاستراتجية للسلطة السياسية للبلد؟!
إنَّ حدوث التغيير السياسي وشيوع الديمقراطية  في الشرق الاوسط مُرتبط بحدوث تغير في العقلية الشرقية لمفهوم السلطة، من خلال تبدل المفهوم من ثقافة  المناصب إلى ثقافة  الخدمة.
أن عقل الإنسان الشرقي مخطوف وممنوع من التفكير او النقاش او النقد والتعبير عن الرأي بصوت عالٍ، الأفواه مُلجمة، والصوت مُفحم، ولذلك إنساننا بحاجة الى زلزال ليخلخل ترسبات الخوف  التي اشاعها حكامنا في النفوس والعقول.
لم ازر الهند ولا الصين ولكنني قرأت عنهما الكثير وعن غيرهما من البلدان فخرجت بقناعة أن هناك دولاً اكثر نجاحًا وتقدمًا في الشرق الأوسط  من بلداننا العربية؟  على الرغم من أن نسبة عالية منهم  تعيش تحت خط الفقر! وربما يعلم مُعظم المهاجرين الساكنين في اوربا واستراليا كيف أن الهندي او الصيني يتأقلم بسهولة مع البلد الجديد الذي يعيش فيه  وكيف يكون له بصمة مؤثرة،  والسبب وفق تصوري الشخصي يعود إلى أمر بسيط ألا وهو: التوجه الفكري لهذين البلدين، فمثلاً انك ترى الهندي أو الصيني في بلده، وهو على الرصيف او اشارة الضوء  يتسول من الناس، تجده سعيدًا ويحب الحياة(حسب ما قرأت  عنهم في الكتب او شاهدته في الأفلام). بينما نحن نشاهد الرجل  الشرقي الغني في بلداننا لا يعرف كيف يعيش بفرح، كيف يؤنق نفسه ويقاسم الاخرين فرحه وغناه (ليس الجميع، فأنا ضد التعميم)، كيف يكتشف الحياة، عبوس ومتجهم ولا يعرف غير الأحزان والانفعال، وبعض الفقراء (ليس الجميع ايضًا) ما أن يغتني الواحد منهم حتى تراه ينظر إلى الآخرين من برجه العاجي نظرة فوقية، أو  يفكّر كيف سيبعثر نقوده....في امور قد تبعده عن حقيقته كانسان، لأنه يقلد حاكمه.... فيصبح (سي السيّد) في البيت والعمل والشارع.... كما هو حال الحاكم العربي (سي السيّد) على شعبه. الا تتفقون معي اننا نادرًا ما نجد حاكمًا عربيًا يبتسم ويمزح، لكل منهم برستيجه الذي يجعله في وادٍ بعيد عن شعبه.
نعاني من مشكلة بسبب حكامنا العرب وهي الترهل الفكري، لذا لدينا ازمة في توجهنا الفكري الذي قادنا الى تصحر اعماقنا واضعف ابصارنا، فلم نعد نرى الأمور كما هي بل كما يصوروها لنا عبر وسائل الاعلام الحكومية، فجعلنا من الهزيمة مجرد نكسة، ومن الفشل .... سوء حظ، ومن الصمت حكمة تبعد عنا الملاحقات الأمنية!
مُعظم حكامنا العرب اهتموا ببناء السلطة الأمنية القوية التي تضرب بيد من حديد، وهذه السياسة خلقت اسوار وحصون بين الحكام وبين شعوبهم في وقت أن الناس كانت  بأمس  الحاجة الى حاكم بسيط مثقف انساني، اداري، منهجي، يهتم بتثقيف شعبه ويسعى لتوفير فرص عمل للشباب وبناء دولة الإنسان (دولة البشر لا دولة الحجر  وعنتريات السلطان وحاشيته). واليوم بلداننا بحاجة ماسة إلى تنمية اقتصادية ومناهج تربوية تبشر بثقافة حبّ الحياة وأحترام الآخر المختلف لكنه  لا يعني خلافًا، لأن الأختلاف غنى وبناء وتكامل، ومن هو هذا الآخر المُختلف عني؟ أنه شريك  لي في الإيمان بالله والوطن واخ في الإنسانية، انذاك ستتحول ثقافتنا من ثقافة الدولة، إلى  ثقافة البلدان الحديثة المُعاصرة في سياستها وتعليمها واعلامها، فتزول من الهوية العربية مُصطلحات (العشيرة، القومية، الطائفة، الدين) لأن إنتماء المواطن سيكون لبلده اولا وليس للحكام  والقومية والدين والعشيرة والطائفة. 
حكامنا يتغنون بالديمقراطية والعمل الجماعي والحرية (وكأنها منة لشعوبهم) ولكن الحرية الشخصية الحقيقية يجب أن تكون بلا وصاية من الدولة واجهزتها الأمنية والسياسية.....
ولعلي اضع يدي على الجرح بقولي: إن عقول معظم حكامنا العرب وحاشيتهم في بلداننا  تحتاج الى اعادة تركيب  وفق منظور حديث، يعي مرحلته ويبتعد عن عالم الاساطير التي حكمتها المؤسسة السياسية والأمنية.....
نحتاج الى جهد جهيد، لتحطيم هذه السياسات التي نشأنا عليها عقوداً من الزمن واصبحت بمثابة قناعة خاطئة مُتجسدة في سلوك يُعقد حياة الإنسان العربي ويملأه بالعقد والمخاوف....
قال الشاعر السوري العربي الأكبر  نزار قباني: "الشعب مثل الطفل الصغير يرضى بقطعة حلوى"، ونشر الحقائق في قصيدته (عنترة) وحذا حذوه الشاعر اللبناني العربي الكبير شربل بعيني في رائعته: قصيدة (لعنة الله علينا).
نعم نحن كشعوب قبلنا بسياسة الصمت امام عنترة بلدنا وسياسة (البوت – البسطال العسكري)، وكان الكثيرون منا يهتفون امام (عنترة) القائد المفدى(يعيش.. يعيش) وفي اعماقهم يهمسون (لعنة الله عليه)! وبسبب سياسة معظم حكامنا العرب (سياسة فرق تسد... ناهيك عن سياسة التمييز الطائفي والعشائري...) بتنا في وضع لا يتقبل الآخر بسهولة، فصار لدينا مخاوف من الإنفتاح على الآخرين خوفًا من وشايتهم علينا، فاغتيلت فينا قناعة النطق بكلمة حق. 
حكامنا يوفرون الأمن لكنهم لا يمنحون شعوبهم الأمان، يطالبون شعبوهم بان يكونوا شعوبًا موحدة، ونحن حاجتنا إلى شعب واحد وليس إلى شعب موحد. لقد فقدنا السلام  ليس في بلداننا والمنطقة بل في اعماقنا!  تطلعوا إلى خطابات معظم حكامنا العرب ستجدونها مليئة بالعنتريات والصراخ والإنفعال.. لذلك  نرى الناس متوترين كنمور مفترسة أو نراهم لا يعرفون الحديث بهدوء وشفافية، حتّى وان نطقوا بكلمة حق نطقوها بعصبية وصوت مرتفع..... لأنهم باتوا نسخة عن حكامهم، وحكامنا ربما  لا يستمعون إلى الموسيقى، لأن الموسيقى هي روحُ الحياة ، لغةُ الحبِّ والاحساسْ والحوار ..
 يقول غوستاف لوبون في كتابه الشهير (سايكولوجية الشعوب:) "الشعوب مثل الأكواب، تستطيع أن تملأها بالخل أو أن تملأها بالزيت"، لكنني لستُ متفقًا مع هذا الطرح، لأن إنساننا اكثر  من  عقل تملأه معلومات، ومخيلة تتزاحم فيها الأحلام او كوب تملأه بالزيت أو صحن تملأه بالحساء.... لدى إنساننا طاقات جبارة، على حكامنا ان يحتضنوها وينموها ويستثمروها لخير بلداننا وخير الإنسانية جمعاء، أنذاك سوف نصبح مسكونين بالإنسانية.
علينا ان نتعلم أن نقول لا، وأن نعي ماذا نريد! وان لا نبدل وجوه حكامنا بل ثقافة ومنهجية أدارتهم للإنسان في بلداننا....

CONVERSATION

0 comments: