حاكم بيونغيانغ اليافع يكشر عن أنيابه/ د. عبدالله المدني


في الدول القمعية ذات الأنظمة الحديدية ككوريا الشمالية من الطبيعي أن تكثر الشائعات والتساؤلات إزاء أبسط الأمور، طالما أن الحقائق مغيبة، والأعلام مقيد، وحرية السؤال والبحث ممنوعة. ففي أوائل الشهر الجاري تناسى الكوريون الشماليون متاعبهم المعيشية وأوضاعهم المزرية، وراحوا يتساءلون عن شخصية السيدة الحسناء التي ظهرت جالسة إلى جانب زعيمهم اليافع "كيم جونغ أون" في حفل غنائي، ثم تكرر ظهورها بعد أيام برفقته وهو يتفقد إحدى المدارس، خصوصا وأن وسائل الإعلام الرسمية لم تشر إلى تلك السيدة من قريب أو بعيد، وكأنها لم تكن في المشهدين إطلاقا. فمن قائل أنها شقيقته الصغرى، إلى قائل أنها إحدى محظياته، إلى قائل أنها سكرتيرة خاصة من سكرتيراته، فإلى قائل أنها زوجته التي تعرف عليها أيام دراسته في سويسرا، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان ما إكتنف حياة والده "كيم جونغ إيل" من أسرار ومغامرات نسائية.
ولم يمر على تلك الحادثة سوى إسبوعين حتى كان الكوريون ومعهم العالم أجمع يتساءلون عن موضوع محير آخر هو القرار المفاجيء لـ "زعيم الأمة" بإعفاء قائد جيشه الجنرال "ري يونغ-هو" من منصبه بداعي المرض.
ولما كان الأخير قد ظهر إلى جانب زعيمه قبل فترة وجيزة في صحة جيدة، وهما يتفقدان قواعد عسكرية (ناهيك عن ظهوره في مطلع الشهر متمتعا بكامل لياقته أثناء مراسم تكريم مؤسس الأمة "كيم إيل سونغ" في ذكرى رحيله في عام 1994). ولما كان هذا الجنرال تحديدا من ضمن من أمنوا إنتقال السلطة بسلاسة إلى الصبي "كيم جونغ أون" من والده "كيم جونغ إيل" الذي توفي في ديسمبر الماضي. ولما كان الجنرال "ري يونغ-هو" من الشخصيات العسكرية الأساسية المعروفة تاريخيا بولائها لآل كيم (الأمر الذي ساهم في صعوده السريع في سلم الرتب العسكرية في الجيش الأحمر الكوري إلى أن تم تعيينه في عام 2009 كقائد لذلك الجيش الذي يضم 1.2 مليون عنصر، ويعتبر من أضخم الجيوش مقارنة بعدد السكان الذي لا يتجاوز 24 مليون نسمة)، فإن الكثيرين شككوا في السبب المعلن لإزاحة الجنرال البالغ من العمر 69 عاما من منصبه العسكري ومنصبه السياسي كعضو في المكتب السياسي للجنة المركزية لحزب العمال الكوري، خصوصا وأن بيونغيانغ نادرا ما أقالت مسئولا من وظيفته لدواع مرضية.
وهكذا زعم البعض أن هناك أسباب أخرى لإقالة الجنرال مثل وجود صراع داخل المؤسسة العسكرية بين الجنرالات العواجيز ومن يصغرونهم سنا، أو رغبة في تطهير الجيش من القادة الذين تعاظم نفوذهم مع مرور الزمن لصالح تعزيز سلطة حزب العمال الشيوعي الحاكم منذ عام 1948، أو نية من لدن الصبي الحاكم في بيونغيانغ في وضع بصمته الخاصة على القرارات المتعلقة بالحزب والجيش والدولة، وإرسال رسالة في الوقت نفسه إلى بقية الجنرالات أن مصيرا مشابها ينتظرهم إنْ قرروا شق عصا الطاعة العمياء والولاء المطلق، وأنه ليس دمية يمكن للمؤسسة العسكرية أن تحركها متى ما شاءت مثلما تردد بــُعيد تسلمه السلطة حينما قيل أن قلة خبرته وصورته كشاب مدلل تساعدان العسكر على التحكم فيه.
إن هذا الإهتمام الإعلامي والسياسي بما يجري في كوريا الشمالية من أمور قد تكون تافهة عند البعض، لا ينبع من أهمية هذا البلاد وثقل دورها الإقليمي أو الدولي بقدر ما ينبع من تأثيرها المدمر على جاراتها في كوريا الجنوبية واليابان وتايوان والصين بصفة خاصة، وعلى العالم بصفة عامة في حال تنفيذ قيادتها اليافعة غير المحنكة لسياسات طائشة، لا سيما وأنها تعيش عزلة دولية قاتلة، وتمتلك أسلحة نووية وكيميائية إلى جانب ترسانة ضخمة من الصواريخ الباليستية عابرة القارات، الأمر الذي يشبه كثيرا مشهد إمتلاك طفل صغير مدلل لمسدس محشو بالرصاص القاتل.
لقد أثبت الصبي "كيم جونغ أون" منذ وصوله إلى السلطة في يناير 2012 أنه يمارس سياسات متناقضة ورعناء مشابه لسياسات أسلافه، فخيب بذلك آمال المجتمع الدولي الذي توقع منه أن يسير بكوريا الشمالية في طريق مختلف عن ذلك الذي سارت فيه في حقبتي والده وجده، أي في طريق الإنفتاح بدلا من العزلة والإنغلاق، وفي طريق التعددية بدلا من حكم الحزب الحديدي الواحد، وفي طريق التفاهم مع الجيران بدلا من ترهيبهم وتهديدهم بـ "الحروب المقدسة". فبعيد تسلمه سلطاته سارع فورا إلى تهديد كوريا الجنوبية بعمل عسكري، ولم تمض فترة قصيرة على توصل واشنطون وبيونغيانغ إلى إتفاق تحصل بموجبه الأخيرة على مساعدات غذائية وإقتصادية مقابل وقف برامجها الصاروخية، إلا وهي تطلق صاروخا جديدا ضمن تجاربها الباليستية، وهو الصاروخ الذي فشلت تجربته بإعتراف أصحابه.
ومثلما كثرت التساؤلات في الداخل والخارج عن السيدة الحسناء، وعن أسباب إقالة الجنرال "ري"، كثرت التساؤلات والشائعات حول إختيار الجنرال "هيون يونغ تشول" كخلف للأخير في قيادة الجيش الكوري الشمالي الأحمر، فالخبر الذي نقلته وكالة الأنباء المركزية الرسمية التابعة لحكومة بيونغيانغ لم يتضمن كالعادة أية تفاصيل حول أسباب الإختيار، بل لم يشر حتى إلى السيرة الذاتية لقائد الجيش الجديد، مما أكد طابع السرية الذي يغلف جميع التطورات وكل مظاهر الحياة في هذه البلاد التعيسة.
وفي مثل هذه الحالات لا يبقى أمام المتعطش لمعرفة الحقيقة وتفاصيلها سوى أن يطرق أبواب الكوريين الجنوبيين بإعتبارهم الأكثر إطلاعا على شئون أشقائهم في الشمال بحكم اللغة المشتركة والتاريخ الواحد، ناهيك عن متابعتهم الدقيقة أولا بأول لتطورات الأوضاع في الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية من باب درء المخاطر وتفادي المفاجآت المزعجة.
يقول الكوريون الجنوبيون أن قائد الجيش الجديد هو أحد الجنرالات المقربين من "زعيم الأمة" كيم جونغ أون، بدليل أن الأخير وقف وراء ترفيعه من رتبة "ليفتينانت جنرال" في الجيش الثامن مدرع إلى رتبة جنرال أثناء إجتماعات حزب العمال الحاكم في سبتمبر من عام 2010، وأن إسم الرجل لم يرد في تقارير وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية سوى ثلاث مرات منذ عام 2008 ، وبالتالي لا يــُعرف عنه الكثير.
وطبقا لأستاذ الدراسات الخاصة بكوريا الشمالية في جامعة سيئول البروفسور "يانغ مو جين" فإن قائد الجيش الجديد يتفق مع "كيم جونغ أون" حول فكرة أن تكون الأولوية لبناء الوطن وليس للجيش، بينما كان القائد المقال يتبنى العكس متفقا في ذلك مع الزعيم الراحل "كيم جونغ إيل"، ويضيف قائلا أن أحد أسباب إزاحة الجنرال "ري" ربما يكون رفضه لأوامر عليا بإسناد مهام غير عسكرية لعناصر الجيش من أجل إنجاز مشاريع إقتصادية بعينها. ويدعم البروفسور الكوري الجنوبي فكرته هذه بالرسالة التي وجهها حاكم بيونغيانغ إلى جنود جيشه فور إقالته للجنرال "ري"، والتي شكرهم فيها على مساهماتهم الجبارة في إنجاز مشاريع الطاقة الهيدروليكية، وصناعة الأغذية المحفوظة، وبناء المكتبات العامة والجسور.

CONVERSATION

0 comments: