الأسطورةُ في قصيدةِ "مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الْأَزْرَق للشاعرة آمال عوّاد رضوان/ عبد المجيد عامر اطميزة

عَلَى عَنَانِ بُشْرَى جَائِعَةٍ/ تَ مَ ا وَ جْ تَ..
وَبليْلٍ لاَئِلٍ/ اقْتَفَيْتَ فَيْضَ ظِلِّي الْمُبَلَّلِ
بِضَوْضَاءِ أَصْفَادِي/ أَرْخَيْتَ مَنَادِيلَ عَتَبٍ مُطَرَّزٍ بتَعَبٍ
تَسْتَدْرِجُ بِشْرِيَ الْمُسْتَحِيل/ وفِي تَمَامِ امْتِثَالِي الْمُتَمَرِّدِ تَوَرَّدْتَ!
بِوَمْضِ عِطْرِكَ الْعَابِثِ
مَـضَـيْـتَ تَـتَـخَـفَّـى/ تَـقْـتَـرِفُ تَقْوَى إِشَاعَةٍ بَشُوشَةٍ
وَأَنَا فِي سَكْرَةِ أَعْمَاقِي
أَثْمَلُ بِمَوْجِ مُسْتَحِيلٍ/ لاَ يُذْبِلُ نُوَاحَهُ جُنُونُكَ!
أَنَامِلُكَ.. / مَا فَتِئَتْ تَتَنَدَّى اشْتِعَالاً دَامِسًا
تُ قَ شِّ رُ/ سَحَابَ وَقْتِي الْمَوْشُومِ بِالنُّعَاسِ!
وَلَمَّا تَزَلْ تخَلَعُ أَسْمَالَ تَثَاؤُبٍ/ كَم تَيَمَّنَ بِالأَزَلْ!
وَلَمَّا تَزَلْ:/ فِي سَدِيمِ الصَّمْتِ الْمَثْقُوبِ
تَمْتَطِي تَرَاتِيلَ كَوْنِي الْغَافِي!
أَسْرَابُ وَهَنِكَ الْمِغْنَاجِ/ ا نْ سَ لَّ تْ/ 
تُرَاقِصُ نِيرَانَ أَحْلاَمٍ/ مَا غَابَ طَعْمُهَا عَنِ لِسَانِي!
طُيُوفُ جِرَاحي طَاعِنَةٌ في سَرْمَدِيَّتِهَا
أَسَهْوًا تَشَدَّقَهَا سُهْدٌ أُسْطُورِيُّ الْمَلاَمِحِ؟
أَشَابَهَا خَدرُ نَقْشِكَ الْخَشْخَاشِ
أَمْ عَلَّقْتَ حَدْسِيَ الْكَفِيفَ/ عَلَى مِقْبَضِ مَوْجِكَ الْفِرْدَوْسِيِّ؟
زَفَرَاتُ نُجُومِي/ جَرَفَتْهَا سُيُولُ تَمَرُّغِكَ/ حِينَمَا غَرَّهَا بَسْطُكَ الْمُهْتَرِئُ
وَ.. / عَلَى مَقَامِكَ الْمَرْكُونِ/ مُنْصَاعَةً
تَ كَ سْ سَ رَ تْ/ وَرَصَّعَتْنِي بِانْكِسَاري!
بِجَنَاحَيْ جُنُونِكَ انْبَثَقْتَ عَائِمًا تُرَفْرِفُ
اضْطَرَبْتَ هَائِجًا تُهَفْهِفُ
تَسْتَبِيحُ رُفُوفَ انْشِطَارٍ/ لَكَمْ صَفَّدْتَهُ بِضَيَاعِي الْمُنَمْنَمِ
كَيْ تَمْتَشِقَ إِغْوَاءَاتِ احْتِضَارِي!
فَتَائِلُ دَهْشَةٍ/ خَطَفَتْ قُصَاصَاتِ تَوْقِي مَسْحُورَةَ الطَّوْقِ
سَمَّرْتَنِي/ بَيْنَ وُعُودٍ مُؤَجَّلَةٍ/ وَبينَ جُدرَان تَتَهَاوَى!
خُطَى رِيحِكَ الضَّرِيرَةُ وَشَتْ أَجْنِحَتَكَ
شَبَّ لَهِيبُهَا فِي اقْتِفَاءِ أَثَرِي
تَنَيْرَنْتَ!/ تَبَغْدَدْتَ!
وفِي مَحَافِلِ التَّرَقُّبِ
احْتَرَفْتَ تَضْمِيدَ حُرُوقِ حُرُوفِي!
ألْسِنَةُ بَوْحِي النَّارِيِّ/ طَلَيْتَهَا بِوَشْوَشَةٍ انْبَجَسَتْ تَسْتَجِيرُ:
سَرَابُ حُورِيَّةٍ أنَا؛/ إِلَى مَسَارِبِ الْوَهْمِ أَغْوَانِي
بِثَوْبِ السَّبَانِي.. سَبَانِي
بَعْثَرَ وَجْهِيَ فِي ذَاكِرَةِ الْحُجُبِ/ وَابْتَلَعَ ذَيْلِيَ الذَّهَبِيَّ!
يَا رُفَقَاءَ الأَسْمَى
بَوَّابَةُ سَمَائِي مَحْفُوفَةٌ بِهَيَاكِلَ مَجْدٍ
سَاحَ ضَوْؤُهَا زَرْكَشَةً تَتَجَنَّحُ/ ومَا انْفَكَّتْ بِأَهْدَابِ الذُّهُولِ تَتَمَوَّجُ
اسْتَنِيرُوا بِي!
لَدُنِي الْمُقَدَّسُ كَمِ ازْدَانَ بِأرْيَاشِ الشَّمْسِ
وَمُنْتَشِيًا / تَعَنَّقَ نَحْوَ عُشِّ النَّارِ!
بِسُلَيْمَانَ أَغِيثُونِي/ بِأسْرَابِ جِنِّهِ/ تَحْفُرُ قَاعَ بَحْرِي أَفْلاَجًا
تُهْدِينِيهَا فِي لَيْلَةِ عِيدِي
مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الأَزْرَقِ/ لِتَهُزَّ قَلاَئِدُ سَمَائِي غَيْثًا.. 
يَتَضَوَّعُ حُبًّا.
يَا رُفَقَاءَ الأَسْمَى
مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الأَزْرَقِ/ وَزُفُّوا إِلَيَّ.. ذَيْلِيَ الْوَضَّاءَ!
*تنيرتَ/ تشبّهتَ بنيرون *تبغددت/ تشبّهتَ بأهل بغداد/*سَباني الثانية تعود إلى السّبي/ *السّباني نسبة إلى سبن قرية عراقية في نواحي بغداد والسّبنية هو أزر أسود للنساء.
ثانيًا: التّحليلُ الأدبيّ: وقفتُ طويلًا قُبيْلَ تحليلي لهذا النّصِّ الجميلِ وسبْرِ أغوارِهِ. البعضُ حلّلَهُ عن طريقِ الاستسلامِ الكلّيِّ للجسدِ الشّبقيِّ، وفتنتِهِ، وغوايتِهِ القاتلةِ، وحمَّلَ العنوانَ مَلامحَ آيروتيكيّة، وهو نوعٌ مِنَ الغريزةِ الجنسيّةِ الجسَديّةِ، الّتي مَنبَعُها التّوْقُ الجارفُ للتّحرّرِ مِن ثِقلِ المكبوتِ التّاريخيِّ الرازحِ على فِكرِ المرأةِ والرّجُلِ معًا. لكنّ هذا التّأويلَ لمْ يَرُقْ لي، والّذي استسَغْتُهُ هو ما حصَلَ ويَحصُلُ في العراق، ففي النّصّ إشاراتٌ مُوحيةٌ مُكثّفةٌ تُعزِّزُ رأيي، فالحُوريّةُ بابليّة عراقيّةٌ، والثّوبُ السّبّاني نسبةً لقريةٍ عِراقيّةٍ قُربَ بغداد، وتستصرخُ الفلّوجة وتَستغيثُ بسُليمانَ الّذي أغاثَ أهلَها بالأفلاج، عندما نضُبَتْ مياهُهُم وجفّت يَنابيعُهم. 
نعودُ لعنوانِ القصيدة: "مَرِّغُوا نَهْدَيَّ  بِعِطْرِهِ الأَزْرَقِ"،  وللبُنيةِ التركيبيّةِ، ويتكوّنُ مِن جُملةٍ فِعليّةٍ "مرّغوا نهْدَيّ"، مُكوَّنة مِن فِعلٍ أمْرٍ، ومِن فاعلٍ وهو واو الجماعة، ومِن مفعولٍ بهِ "نهْدَيَّ"، ومِن جارّ ومجرور في محَلّ نصب حال. 
أمّا بُنيتُهُ الدّلاليّة: "مَرِّغْ" فِعل أمْر، فيَقولون:" أَمْرَغَ؛ أَي سالَ لُعابُه"(2). وَ"المَرْغُ" يَعني الإشباعُ بالدُّهْن(3). لكنّ دلالتَهُ تطوّرتْ، فأصبحَ بمعنى التّطيُّبِ بالعِطر.   والنّهدانِ هما الثّديانِ، وهُما رمزانِ لمعاني الجَمالِ والخصوبةِ والإثارةِ والبناء والنّماء، "والعطرُ الأزرق" رمزٌ للعِطرِ الفوّاح المُثير. نعم، وفي ظاهرِ العنوانِ صرخةٌ آيروتيكيّة، واستسلامٌ للغريزةِ الجنسيّة، وبعبارةٍ أخفُّ وطأةٍ، هو نوعٌ مِنَ التّوْقِ الجارفِ للتّحرّرِ مِن ثِقلِ المكبوتِ التّاريخيِّ الرّازحِ على فِكرِ المرأةِ والرَّجُلِ معًا؟ 
وتتساءَلُ صاحبةُ النّصِّ في مَقالٍ لها بعنوانٍ: "الأيروتيكيّة مفهومًا- مَبعثًا وتاريخًا" قائلة:" هل الاستسلامُ الكلّيُّ للجسدِ الشّبقيِّ، وفتنتِهِ، وغوايتِهِ القاتلةِ، يُقدّمُ للكاتبِ وللمجتمعِ الدّفءَ، والحنانَ، والاحتماءَ الوجوديَّ، ويُوفّر الأمانَ، والإحساسَ بالحياةِ الحقيقيّةِ الفاضلةِ، ويَصنعُ الحياةَ بشخصيّاتٍ سويّةٍ، تَعي واجباتها وحقوقَها في إعادةِ التّوازن؟"(4).     فالمَعنى الظّاهريُّ والسّطحيُّ يَتمثّلُ في أنّ الشّاعرةَ تَطلُبُ وتدعو للشّبقِ الجنسيِّ والتّلذُّذِ بالجَسدِ، لكن؛ هناكَ معنًى أعمقَ وأشمَلَ وأدَقَّ مِن هذا المعنى السّطحيّ يُستشَفُّ مِن خلالِ النّصّ، فليستِ الشّاعرةُ هي الّتي تدعو للإشباعِ والتّلذُّذِ بالجسدِ، لكن هناكَ مدينةً هي مدينةُ السّلام؛ بغداد العراق، مدينةُ أقدمِ الحضاراتِ، مدينةُ هارونِ الرّشيد الّتي تَنكّرَ لها الأهلُ والخِلّانُ والجارُ وذوو الأرحام، معَ مَن غزاها ممّن جاءَ مِن وراءِ البحار، هي المدينةُ الّتي أُرجِعَتْ للعصرِ الحجريّ، فلمْ تُرحَمْ، هي الّتي تَستصرخُ الدّفءَ والحنانَ والحضنَ والأمانَ، مِنَ الأهلِ الخِلّان والّلئام. فالعراقُ اليومَ خُلُوٌّ مِنْ كلِّ حنانٍ، فما تبقّى مِن روحِ بغدادَ ظمآنٌ للجَسدِ الولهان، فالشّاعرةُ شبّهتِ العراقُ بعدَما دُمِّرَ وفقَدَ كلَّ المَلذّاتِ، بالمرأةِ الشّبقةِ الّتي تتوسّلُ الجسدَ، فهي تتقمّصُ العراق.  
العنوانُ مبدوءٌ بالأسلوبِ الإنشائيّ، وهو الأمْرُ الّذي خرجَ عن مَعناهُ الحقيقيّ؛ ليُفيدَ التّمنّي، فالمُخاطَبُ كما الجماد، قلبُهُ كالحجارةِ أو أشَدَّ قسوةٍ، أو قُلْ: يُفيدُ الأمْرُ الدّعاءَ، فالمُتكلِّمُ في حالةِ ضعفٍ وتدميرٍ، والمُخاطَبُ قويٌّ يَتسلّحُ بكاملِ قوّتِهِ وعجرفتِهِ. وفي عبارة "العطر الأزرق" انزياحٌ، فالشّاعرةُ أسندَتِ الصّفةَ "الأزرق"  للموصوفِ "العطر"، وهي استعارةٌ تنافريّةٌ؛ وهي صورةٌ بلاغيّةٌ، تقومُ على الجمْعِ بينَ مُتنافِرَيْنِ لا علاقةً جامعةً بينَهما؛ لخلْقِ منظومةٍ شعريّةٍ ذاتِ دلالةٍ ومَغزى؛ لِيتحقّقَ التّنافرُ المطلوبُ، فنحنُ نقولُ مثلًا: العِطرُ الفوّاحُ. تقولُ الشّاعرةُ الّتي تقمّصَتِ العراقَ: عَلَى عَنَانِ بُشْرَى جَائِعَةٍ/ تَ مَ ا وَ جْ تَ../ وَبليْلٍ لاَئِلٍ اقْتَفَيْتَ فَيْضَ ظِلِّي الْمُبَلَّلِ.   
تقول:" عَلَى عَنَانِ بُشْرَى جَائِعَةٍ": هذا النّوعُ مِنَ الاستعارةِ يُعرَفُ بـ "الاستعارةِ التّنافريّة"، فالشّاعرةُ أسندَتِ الجوعَ للبُشرى؛ لِيتحقّقَ التّنافرُ المَطلوبُ، وهو ابتداعٌ شِعريٌّ تَخيُّليّ، وهذا انزياحٌ في الشّعر. (عَلَى عَنَانِ بُشْرَى جَائِعَةٍ تَمَاوَجْتَ): وفي هذا انزياحٌ تركيبيٌّ في التّقديمِ والتّأخير، حيثُ تقدّمَتْ شِبهُ الجملةِ "على عنان بشرى"، على كلٍّ مِنَ الفِعل والفاعل "تماوَجْتَ". نعم، لقد وَعدوا العراقَ بالدّيمقراطيّةِ والرّخاءِ والازدهار، وما زالَ القتلُ والفقرُ مُستمرًّا!
(وَبليْلٍ لاَئِلٍ اقْتَفَيْتَ فَيْضَ ظِلِّي الْمُبَلَّلِ): "وليلٌ لاَئِلٌ "مثل: شِعْرٌ شاعرٌ، في التّأكيدِ على الظّلمةِ الّتي اجتاحتْ بغدادَ، والمَصائبِ الّتي حلّتْ بها، وفي هذا السّطرِ الشِّعريِّ اختلفَ التّرتيبُ المألوفُ في الجُملةِ، وهذا ما يُسمّى بالتّحويلِ التّركيبيّ، وهذا مَشُوقٌ للمُتلقّي ووجدانِهِ، ويُغلِّفُ المَعنى والفكرةَ بعضُ الغموضِ، وهنا تكمُنُ الّلذّةُ العقليّةُ في الاستكشاف، وهدفُ التّقديمِ إبرازُ أهمّيّةِ المُقدَّمِ ولفتُ الانتباهِ، فلقد قدّمّتِ الشّاعرةُ شِبهَ الجُملةِ "وبليلٍ لائلٍ"، وحقُّها التّأخيرُ على كلٍّ مِنَ الفِعلِ والفاعلِ والمفعولِ به، وحقُّ كلٍّ التّقديم "اقْتَفَيْتَ فَيْضَ ظِلِّي الْمُبَلَّلِ"؛ لبيانِ وتأكيدِ المَصائبِ الّتي تحلُّ بالعراق. 
"اقْتَفَيْتَ فَيْضَ": ولقد تَكرّرَ الصّوتانِ: الفاء والياء؛ لإحداثِ نوعٍ مِنَ الإيقاع. (وَبليْلٍ لاَئِلٍ اقْتَفَيْتَ فَيْضَ ظِلِّي الْمُبَلَّلِ): فالشّاعرةُ أسندَتِ الصّفةَ "المُبلّلِ"  للموصوفِ "ظِلّي"، وهي استعارةٌ تنافريّةٌ؛ ليتحقّقَ التّنافُرُ المَطلوب. 
بِضَوْضَاءِ أَصْفَادِي/ أَرْخَيْتَ مَنَادِيلَ عَتَبٍ مُطَرَّزٍ بتَعَبٍ/ تَسْتَدْرِجُ بِشْرِيَ الْمُسْتَحِيل/ وفِي تَمَامِ امْتِثَالِي الْمُتَمَرِّدِ تَوَرَّدْتَ! الصّورةُ المُركّبةُ هنا هيَ صورةُ الشّاعرةِ، أو إنْ شِئتَ العراق، المُكبَّلة يديْها بالأصفادِ الثّقيلة الّتي يُسمَعُ صوتُ  قرقعتِها. وتُرخي الشّاعرةُ مناديلَها المكتوب عليها عباراتِ العتب، وقد صاغتْها بتعبٍ، وهي تئِنُّ مِن ويلِ الحصارِ وقصْفِ المَدافع وأزيزِ الرّصاص، لكنّ الحبيبَ يُغلِقُ عينيْهِ، ويصُمُّ أذنيْهِ، ويَستمِرُّ في مساعدتِهِ للخارجِ في ذبْحِ الشّاعرة.
تقولُ: (بِضَوْضَاءِ أَصْفَادِي/ أَرْخَيْتَ مَنَادِيلَ عَتَبٍ مُطَرَّزٍ بتَعَبٍ): في هذا انزياحٌ تركيبيٌّ، وهذا مَشُوقٌ للمُتلقّي ووجدانِهِ، ويُغلّفُ المعنى والفكرةَ بعضُ الغموضِ، وهنا تكمُنُ الّلذّةُ العقليّةُ والوجدانيّةُ لدى المُتلقّي في الاستكشاف. وهدفُ التّقديمِ إبرازُ أهمّيّةِ المُقدَّم ولفتُ الانتباهِ، فلقدْ قدّمَتِ الشّاعرةُ شِبهَ الجُملة "بِضَوْضَاءِ أَصْفَادِي"، وحقُّها التّأخيرُ على كلٍّ مِنَ الفِعلِ والفاعلِ والمفعول به، وحقُّ كلٍّ التّقديم "أَرْخَيْتَ مَنَادِيلَ عَتَبٍ"، لبَيانِ وتأكيدِ ما سيُسجِّلُهُ التّاريخُ على الأهلِ والعرَبِ الّذينَ تآمَروا على العِراق، وعلى حصارِهِ وتكبيلِ يديْهِ بالشّروطِ الجائرة، فللأصفادِ ضوضاءٌ، وللمَناديلِ عتبٌ تُطرَّزُ عباراتُها بتعبٍ، ولقدْ تَلاعبَتِ الشّاعرةُ بالألفاظِ بينَ كلٍّ مِن: "عتبٍ" و"تَعبٍ" جناسٌ غيرُ تامّ، وهذا يُوَلِّدُ جِرسًا إيقاعيًّا مُناسِبًا. 
وفي عبارتَيْ: "بِضَوْضَاءِ أَصْفَادِي" وَ "مَنَادِيلَ عَتَبٍ": انزياحٌ إضافيٌّ، يَكمُنُ في  المفاجأةِ الّتي يُنتِجُها حصولُ الّلامُنتظَرِ مِن خلالِ المُنتظَر؛ أي أنْ يتوقّعَ المُتلقّي مضافًا إليهِ يتلاءمُ والمُضاف. فالمُتلقّي يَتوقّعُ بَعدَ كلمةِ "ضوضاء"، أن يَسمعَ كلمةَ المُضاف إليه "المزعجة" مثلًا، لكنّهُ يُفاجأ بوجودِ كلمةِ "أصفاد"، والمُتلقّي يتوقّعُ أيضًا بَعدَ كلمةِ "مناديلَ"، أنْ يَسمعَ كلمةَ المُضافِ إليهِ "عُرس" مثلًا، لكنّهُ يُفاجأ بوجودِ كلمةِ "أصفاد"، وهكذا يُصبحُ لدينا انزياحٌ إضافيٌّ شِعريٌّ بحت.
بِوَمْضِ عِطْرِكَ الْعَابِثِ/ مَـضَـيْـتَ تَـتَـخَـفَّـى/ تَـقْـتَـرِفُ تَقْوَى إِشَاعَةٍ بَشُوشَةٍ/ وَأَنَا فِي سَكْرَةِ أَعْمَاقِي/ أَثْمَلُ بِمَوْجِ مُسْتَحِيلٍ/ لاَ يُذْبِلُ نُوَاحَهُ جُنُونُكَ!: صورةُ الشّاعرةِ (العراق) أذهَلتْ أعماقَها المآسي والفواجعُ، وهي تتلقّى الضّربةَ تِلوَ الأخرى، والحبيبُ بخيَلائِهِ يَمضي مَزهُوًّا بعِطرِهِ، عابثًا بعواطفِها، يَبُثُّ الإشاعاتِ البشوشةَ، لكنّها مُغرِضة، وهذا يُذكِّرُنا بسادةٍ مِنَ العِراقِ، روّجوا للغازي بوجودِ أسلحةِ دمارٍ شاملٍ، ليُوفِّروا لهُ غطاءَ تَدميرِ العراق، وسَلْخِ نسيجِهِ الاجتماعيِّ وتَفكيكِهِ. 
"بِوَمْضِ عِطْرِكَ الْعَابِثِ/ مَـضَـيْـتَ تَـتَـخَـفَّـى": وفي هذا انزياحٌ تركيبيٌّ، وهذا مُشّوِّقٌ للمُتلقّي ووجدانِهِ، وهدفُ التّقديمِ إبرازُ أهمّيّةِ المُقدَّم، ولفتُ الانتباهِ، فلقدْ قدّمَت الشّاعرةُ شِبهَ الجُملة "بوميض عطرك"، وحقُّها التّأخيرِ على كلٍّ مِن الفِعل والفاعل، وحقُّ كلٍّ التّقديم "مَـضَـيْـتَ تَـتَـخَـفَّـى"؛ لبيانِ وتأكيدِ ما سيُسجِّلُهُ التّاريخُ على الأهلِ والعرب، الّذينَ تآمَروا على العراق، ولمْ يُبالوا بما يَحصلُ لهُ. وفي مِثلِ هذا النّوعِ مِنَ التّقديمِ والتّأخيرِ في عبارة: "لاَ يُذْبِلُ نُوَاحَهُ جُنُونُكَ!" حيثُ قدَّمَتِ المَفعولَ بهِ على الفاعل؛ للتّأكيدِ على نُواحِ المَحبوبة.   
إنّ النّاقدَ كمال أبو ديب يُؤمِنُ بأنّ الشّعريّةَ والشِّعرَ، هُما جَوهَرِيًّا نهجٌ في طريقةِ رؤيا العالَمِ، واختراقِ قِشرتِهِ إلى لبابِ التّناقضاتِ الحادّة الّتي تَنسجُ نفسَها في لُحمَتِهِ وسداه، وتمنحُ الوجودَ الإنسانيّ طبيعتَهَ الضّدّيّةَ العميقة: مأساةُ الولادةِ وبهجةُ الموتِ(5).  
وتقول: أَنَامِلُكَ.. مَا فَتِئَتْ تَتَنَدَّى اشْتِعَالاً دَامِسًا/ تُ قَ شِّ رُ/ سَحَابَ وَقْتِي الْمَوْشُومِ بِالنُّعَاسِ!/ وَلَمَّا تَزَلْ تخَلَعُ أَسْمَالَ تَثَاؤُبٍ/ كَم تَيَمَّنَ بِالأَزَلْ!/ وَلَمَّا تَزَلْ:/ فِي سَدِيمِ الصَّمْتِ الْمَثْقُوبِ / تَمْتَطِي تَرَاتِيلَ كَوْنِي الْغَافِي: في هذا المَقطعِ كما في كلِّ مَقاطعِ القصيدة، نرى أنّ الفِعلَ المُضارعَ هو المُهيمِنُ، دلالةً على استمراريّةِ المأساةِ في نحو: تتندّى، تُقشِّرُ، (ولمّا تَزَلْ مكرّرة)، تمتطي. 
ولم تكتَفِ الشّاعرةُ باستمرارِ المأساة، بل وأرجَعَتْها للزّمنِ الماضي، فـ "لمّا" حرفُ نفيٍ وجزمٍ وقلْبٍ، ومِن خصائصِها أنّها تَنفي حدوثَ الفِعل مِنَ الزّمنِ الماضي حتّى لحظةَ التّكلُّم، وما زالَ: تُستعمَلُ للدّلالةِ على الاستمرارية، فلمّا + تَزَلْ حَوَّلَتْ زمنَ الفِعلِ المُضارع، وقلَبَتْ زمنَ حُصولِهِ مِنَ الماضي إلى الحاضر، ويُتوقَّعُ استمراريّةُ حُصولِهِ مُستقبَلًا، فالحبيبُ العدُوُّ مُستمِرٌّ في أسمالِ تَثاؤُبِهِ الكسولِ في الماضي وحتّى هذه الّلحظة، ويُتوقَّعُ منهُ الاستمرارُ مُستقبًلًا. وقد صمَتَ على ما يَجري في العراقِ في الماضي وحتّى هذهِ الّلحظة، ومِنَ المُتوقّعِ منهُ أنْ يَستمِرَّ مُستقبَلًا أيضًا، ولقد تَكرّرَتْ جملة "ولمّا تزَلْ" مرّتيْن، وسبَقتِ الثّانية "بالأزل"، فوظيفتُها مُركَّبةٌ، وظيفةٌ مَعنويّةٌ تَدُلُّ على مأساةِ العِراق ليسَ ماضيًا فحسْب، بلْ وحاضرًا ومِنَ المُتوقَّعِ استمرارُها. ووظيفةٌ صوتيّةٌ؛ تتمثّلُ في خلقِ إيقاعٍ موسيقيٍّ يَسري في جَسدِ المَقطوعة. 
"أَنَامِلُكَ.. مَا فَتِئَتْ تَتَنَدَّى اشْتِعَالاً دَامِسًا"/ تُ قَ شِّ رُ/ سَحَابَ وَقْتِي الْمَوْشُومِ بِالنُّعَاسِ!": ففي السّطرِ الأوّلِ كنايةٌ عن إيذاءِ المَحبوبِ لمَحبوبتِهِ. و"أنامِلُكَ": ذكَرَت الشّاعرةُ الأناملَ (الجزءَ)، وأرادتْ بهِ الإصبعَ أو اليدَ (الكُلّ)، مجاز مرسل علاقته الجزئيّة، والمَجازُ انحرافٌ وانزياح كما الكناية، وتقولُ:) اشتعالًا دامِسًا)، وهو انحرافٌ وانزياحٌ، فالمُتلقّي عندما يَسمعُ لفظةَ "اشتعالًا"، يتوقّعُ أن يأتِيَ بَعدَها كلمةُ (مُضيئًا) مثلًا، فيتفاجأ بوجودِ كلمةٍ غيرِ مُتوقّعةٍ وهي (دامِسًا). 
وفي عبارةِ (سَحَابَ وَقْتِي): انزياحٌ إضافيٌّ، فالأناملُ تتندّى وتشتعِلُ، والاشتعالُ دامِسٌ، ولِلوقتِ سحابٌ يَتقشّرُ ويُوشَمُ بالنّعاسِ، وللتّثاؤبِ أسمالٌ تُخلَعُ، وللصمتِ سديمٌ مَثقوبٌ، ولكوْنِ الشّاعرةِ تَراتيلُ تُمتَطى، وكلُّها كناياتٌ أو استعاراتٌ تَخضعُ للانزياح.
أَسْرَابُ وَهَنِكَ الْمِغْنَاجِ/ ا نْ سَ لَّ تْ/ تُرَاقِصُ نِيرَانَ أَحْلاَمٍ/ مَا غَابَ طَعْمُهَا عَنِ لِسَانِي!/ طُيُوفُ جِرَاحي طَاعِنَةٌ في سَرْمَدِيَّتِهَا/ أَسَهْوًا تَشَدَّقَهَا سُهْدٌ أُسْطُورِيُّ الْمَلاَمِحِ؟/ أَشَابَهَا خَدرُ نَقْشِكَ الْخَشْخَاشِ/ أَمْ عَلَّقْتَ حَدْسِيَ الْكَفِيفَ/ عَلَى مِقْبَضِ مَوْجِكَ الْفِرْدَوْسِيِّ: وتستهلُّ الشّاعرةُ هذهِ السّطورَ بالأسلوبِ الخبَريّ؛ لإثباتِ ذاتِها، ولتُظهِرَ مدى تَأثُّرِها فتقولُ: وهَنُكَ وضعْفُكَ الغنوج، الّذي لهُ أسرابٌ كما الطّيور، انسلّتْ لتُراقِصَ أحلامي المُتأجِّجة، الّتي لمْ يَغِبْ يومًا طعمُها على لساني، فطيوفُ جراحاتي ليستْ مُحدثة. 
وتنتقلُ شاعرتُنا إلى الأسلوبِ الإنشائيّ تتساءلُ مُخاطِبةً حبيبَها الّذي خذلَها، أو قُلِ الّذي دمَّرَ روحَها، وقتَلَ جسَدَها سائلةً إيّاهُ: وهل قِلّةُ نوْمي الأسطوريِّ يَسهو مُتشدِّقًا، أم أصابَها نقْشُ وعودِكَ الكاذبةِ الواهيةِ كما الخشخاش، أم أنّكَ علّقتَ ظنِّيَ العاجزَ على مِقبَضِ موْجِكَ الّذي تَنعَمُ به؟؟ 
الاستفهامُ خرَجَ عن معناهُ الحقيقيُّ في كلٍّ؛ ليُفيدَ التّعجُّبَ تارةً، وتارةً أخرى إظهارَ الأسى والحزنِ والتّفجُّعِ والتّوجّع، مِن أفعالِ الحبيبِ المُتمثّلِ في العدُوِّ الخارجيِّ والابنِ العاقِّ الدّاخليّ، والجار، والجار الجنب الّذي لمْ يَفِ بحقِّ الجيرةِ ولا القرابة. وهنا جُملةٌ مِنَ الاستعاراتِ والكناياتِ، وكلُّها انزياحاتٌ، فتُشَبّهُ الشّاعرةُ الوَهَنَ بالأسرابِ الغنوجةِ المُتراقصة، وشبّهَتْ نيرانَ الأحلامِ براقصاتٍ تارةً، وتارةً أخرى شبّهَتْها بشيءٍ له مَذاقٌ. ومِنَ الكناياتِ: (مَا غَابَ طَعْمُهَا عَنِ لِسَانِي!): كنايةً عنِ الكوارثِ الّتي حلّتْ بالعراق. 
(طُيُوفُ جِرَاحي طَاعِنَةٌ في سَرْمَدِيَّتِهَا): كنايةً على أنّ أطماعَ الآخرين في العراقِ قديمة.
(أَشَابَهَا خَدرُ نَقْشِكَ الْخَشْخَاشِ/ أَمْ عَلَّقْتَ حَدْسِيَ الْكَفِيفَ/ عَلَى مِقْبَضِ مَوْجِكَ الْفِرْدَوْسِيِّ): كنايةً عن أنّ وعودَ الغزاةِ، ومَنْ تَحالَفَ معَهُم، والدّاعينَ بخلْقِ شرقٍ أوسط جديد، ونشر الدّيمقراطيّةِ ما هو إلّا وهْمٌ وكلامٌ واهٍ، كما الخشخاشُ في الضّعفِ والتّخديرِ والاستهلاكِ المَحَلّيّ. 
(أَمْ عَلَّقْتَ حَدْسِيَ الْكَفِيفَ): كنايةً عن تصديقِ بعضِ العِراقيّينَ بقُربِ الفرَجِ الّذي وعدَهثم بهِ الغزاة. وفي الشّعر المُعاصِر "لا بدّ للكلمةِ مِن أنْ تعلوَ على ذاتِها، أنْ تزخرَ بأكثر ممّا تعد بهِ، وأنْ تُشيرَ إلى أكثر ممّا نقولُ، فليسَ الكلمة في الشّعرِ تقديمًا دقيقًا، أو عرضًا مُحكمًا لفكرةٍ أو موضوعٍ ما، ولكنّها رحمٌ لخصبٍ جديد"(6). 
زَفَراتُ نُجُومي جَرَفَتْها سُيُولُ تَمَرُّغِكَ/ حِينَما غَرَّها بَسْطُكَ الْمُهْتَرِئُ/ وَ../ عَلى مَقامِكَ الْمَرْكُونِ/ مُنْصاعَةً/ تَ كَ سْ سَ رَ تْ/ وَرَصَّعَتْنِي بِانْكِساري!/ بِجَناحَيْ جُنُونِكَ انْبَثَقْتَ عائِمًا تُرَفْرِفُ/ اضْطَرَبْتَ هائِجًا تُهَفْهِفُ/ تَسْتَبِيحُ رُفُوفَ انْشِطارٍ/ لَكَمْ صَفَّدْتَهُ بِضَياعِي الْمُنَمْنَمِ/ كَيْ تَمْتَشِقَ إِغْواءاتِ احْتِضارِي: الشّاعرةُ هنا تُخاطبُ الحبيبَ؛ (الأهلَ، والخِلّان، والصّحبَ، والجيران، والطّامعين الغزاة)، بأسلوبٍ خبَريٍّ، تأكيدًا للذّاتِ ولإظهارِ التّشاؤمِ والحزنِ والأسى قائلةً: زفراتُ نجومي وحضارتي عبْرَ التّاريخ أضاعَتْها، جرَفتْها سيُولُ غطرسَتِكَ، وأطماعِكَ، ومَظاهرِ قوّتِكَ المُتآكلة، وبقوّتِكَ وعنجهيّتِكَ تكسّرْتُ، ونقشتُ على صدري مَعالمَ أعلامِكَ، وجنونُ عظَمَتِكَ تُرفرفُ كما الطّيور، وعندما واجهَتْكَ المُقاومةُ الباسلة، اضطربْتَ كالثّورِ الهائجِ تستبيحُ أرضي ونفطي وحضارتي وتاريخي، وأنتَ تنتظرُ موتي واستسلامي. 
(زَفَرَاتُ نُجُومِي): كنايةً عن الحضارةِ الّتي تئِنُّ مِن وقْعِ ضرباتِ المُعتدي. 
 (جَرَفَتْهَا سُيُولُ تَمَرُّغِكَ): كنايةً عن تدميرِ الغُزاةِ لحضارةِ بلادِ الرّافدين.  
(غَرَّهَا بَسْطُكَ الْمُهْتَرِئُ): كنايةً عن جنونِ عظمةِ الغازي.
(عَلَى مَقَامِكَ الْمَرْكُونِ): كنايةً عن قوّةِ الغُزاةِ وإمكاناتِهم.
(وَرَصَّعَتْنِي بِانْكِسَاري!) كنايةً عن محاولةِ الغزاة إذلال العراق، وطمْس حضارتِهِ، وتجميل الغزاةِ لقُبحِ أعمالِهم.
(بِجَنَاحَيْ جُنُونِكَ انْبَثَقْتَ عَائِمًا تُرَفْرِفُ): كنايةً عن زهُوّ الغزاةِ بقُوّتِهم، ومَقدرتِهم وإمكانيّاتِهم.
(اضْطَرَبْتَ هائِجًا تُهَفْهِفُ تَسْتَبِيحُ رُفُوفَ انْشِطارٍ): كنايةً عن اضطرابِ الغزاةِ أمامَ المُقاومة، ورَدِّهِم الجنونيّ في التّدميرِ والتّخريب.
(كَيْ تَمْتَشِقَ إِغْوَاءَاتِ احْتِضَارِي!): كنايةً عن إصرارِ الغازي بتدميرِ العِراقِ، وحضارةِ ما بين الرّافدَين. وكلُّها انزياحاتٌ، ولها الأثرُ الجَماليُّ الكبيرُ في نفسِ المُتلقّي. (فنحنُ في الشِّعرِ إذن لسنا إزاءَ ألفاظٍ دقيقة، لها دلالاتٌ دقيقة، وإنّما نحن إزاءَ رموزٍ تُعبِّرُ عمّا تختلجُ بهِ نفوسُ الشعراءِ منِ مَشاعِرَ، وهيَ رموزٌ قاصرةٌ يَستعينونَ على قصورِها بالخيالِ والموسيقى، ولكنّ صُوَرَها لا يُغادِرُها مغادرةً تامّة، بل تَظلُّ تَسبحُ في ضبابٍ قليلٍ أو كثيرٍ، وهذا ما يَجعلُها واسعةَ الدّلالة، حتّى الألفاظ الحسّيّة عندَ الشّعراءِ نُحِسُّ فيها نفسَ الاتّساع، فإذا قالَ شاعرٌ: إنّ لوْنَ البحرِ أزرق، كانتِ الزّرقةُ شيئًا غيرَ محدودٍ، إذِ الزّرقةُ تَختلفُ درجاتُها اختلافاتٍ كثيرةً. وإذا كانَ لا يَستطيعُ أنْ يَجدَ الكلمةَ الدّقيقةَ الّتي يُعبّرُ بها عن المحسوساتِ الّتي يُبصِرُها، فأوْلى أنْ يَضِلَّ الكلمةَ الدقيقةَ للمعنى العاطفيِّ الّذي يَجيشُ بنفسِهِ وفي داخلِهِ(7). 
فَتَائِلُ دَهْشَةٍ/ خَطَفَتْ قُصَاصَاتِ تَوْقِي مَسْحُورَةَ الطَّوْقِ/ سَمَّرْتَنِي/ بَيْنَ وُعُودٍ مُؤَجَّلَةٍ وَجُدرَان تَتَهَاوَى!/ خُطَى رِيحِكَ الضَّرِيرَةُ وَشَتْ أَجْنِحَتَكَ/ شَبَّ لَهِيبُهَا فِي اقْتِفَاءِ أَثَرِي/ تَنَيْرَنْتَ!/ تَبَغْدَدْتَ!   
(فَتَائِلُ دَهْشَةٍ): والمُتلقّي بَعدَما يَقرأ كلمةَ "فتائل"، يتوقّعُ أن يتلوَها كلمةُ "سراج" مثلًا، غيرَ أنّهُ يتفاجأ بوجودِ كلمةٍ مُغايِرةٍ تمامًا وهي "دهشة"، وهنا سِرُّ الانزياحِ، وهو انزياحٌ إضافيٌّ، وفيهِ جَمالٌ، وتشويقٌ، ومُتعةٌ عقليّةٌ لدى المُتلقّي.
(مسحورة الطّوْق): وفيها تحويلٌ إضافيٌّ، والمُتلقّي بَعدما يَقرأ كلمةَ "مسحورة"، يتوقّعُ أن يَتلوَها كلمةُ "الّلبّ" مثلًا، غيرَ أنّهُ يَتفاجأ بوجودِ كلمةِ "الطّوْق". ومِثلُ هذا الانزياحِ كما في: (خَطَفَتْ قُصَاصَاتِ تَوْقِي): فالمُتلقّي عندما يَسمعُ لفظةَ "قصاصاتٍ"، يتوقّعُ أن يَتلوَها كلمةُ "ورق".
(سَمَّرْتَنِي/ بَيْنَ وُعُودٍ مُؤَجَّلَةٍ وَجُدرَان تَتَهَاوَى!): كنايةً في كلٍّ، عن الوعودِ الّذي وعَدَها الغازي بتحويلِ العِراق واحةً للرّخاءِ والدّيمقراطيّة.
(خُطَى رِيحِكَ الضَّرِيرَةُ وَشَتْ أَجْنِحَتَكَ/ شَبَّ لَهِيبُهَا فِي اقْتِفاءِ أَثَري): كنايةً عن الدّمارِ الشّاملِ الّذي ألمّ بالعراق، وجنونِ عظمةِ الغازي.
(تَنَيْرَنْتَ!): تُشبّهُ الشّاعرةُ الغازي في تنكيلِهِ بالعراقيّين بنيرون الّذي أحرقَ روما، والفِعلُ مُشتقٌّ مِن اسْمِ نيرون، وفي الّلفظةِ إيحاءٌ ورمز.
(تَبَغْدَدْتَ(!؛ أي تَشبّهتَ بالبَغداديّينَ في المأكلِ والمَشربِ والمَلبس، وفي هذا الفِعلِ إيحاءٌ للرّاحةِ والسّكينةِ والعيْشِ الفاخر، والفِعلُ مُشتقٌّ مِنَ الاسْمِ بغداد.  
(لقد احتفظَتْ لغةُ الشّعرِ– على مَرّ العصور- بمُقوِّماتٍ فَنّيّةٍ ما زالتْ تنمو بفضلِ عباقرةِ الشّعراءِ والنّقّادِ في مُختلفِ الآداب، وانتهتْ إلى العصرِ الحديث، فأثّرَتْ في أدبِهِ مِن حيثُ صياغته ومعانيه. ولا يَنالُ هذا التّأثُّرُ– في شيء- مِنَ الّلغةِ ألفاظَها وقواعدَها؛ فهذا ما لم يَقُلْ بهِ أَحَدٌ مِنَ المُجدّدينَ الّذينَ يُعْتَدُّ بهم، في أدبنا العربيّ، أو في الآدابِ العالميّةِ الأخرى، ولم يَدُرْ في خلدِ هؤلاءِ المُجدّدينَ أنْ يَنالوا مِن الّلغةِ، أو يُهَوِّنوا مِن شأنِها أو مِن شأنِ المَعرفةِ الدّقيقةِ لأساليبِها ومَعانيها).(8).‏ 
وفِي مَحَافِلِ التَّرَقُّبِ/ احْتَرَفْتَ تَضْمِيدَ حُرُوقِ حُرُوفِي!/ ألْسِنَةُ بَوْحِي النَّارِيِّ/ طَلَيْتَهَا بِوَشْوَشَةٍ انْبَجَسَتْ تَسْتَجِيرُ:/ سَرَابُ حُورِيَّةٍ أنَا؛/ إِلَى مَسَارِبِ الْوَهْمِ أَغْوَانِي/ بِثَوْبِ السَّبَانِي.. سَبَانِي/ بَعْثَرَ وَجْهِيَ فِي ذَاكِرَةِ الْحُجُبِ/ وَابْتَلَعَ ذَيْلِيَ الذَّهَبِيَّ!   
وقد وظّفَ الشّعراءُ المُحْدِثونَ الأسطورةَ في شِعرهِم لعدّةِ أسباب، منها: ترجمة جبرا إبراهيم جبرا أسطورةَ "أودنيس أو تموز" سنة 1957 م، فوَجدَ فيها السّيّابُ ضالّتَهُ المنشودة؛ للتّعبيرِ عن مُشكِلاتِهِ الذّاتيّةِ ومُشكلاتِ عَصرِهِ. 
جاذِبيّةُ الأسطورة أنّها تَصِلُ بينَ الإنسانِ والطّبيعةِ، وتُعينُ على معرفةِ حركةِ التّطوُّرِ في الحياةِ الإنسانيّة، وتأثُّرِ الشّعراء بقصيدة "ت.س.إليوت"، "الأرضُ اليباب"، لأنّها تُثيرُ الإحساسَ بمأساةِ العصر، وذلكَ لتوظيفِ أساطيرِ "أودنيس وَ أوزيريس"، وفي توظيفِ الأسطورةِ مَجموعةٌ مِن الوظائفِ، أهَمُّها الوظيفةُ الجَماليّة: وتتمثّلُ في التّداعياتِ، ولا يُقصَدُ بهِ تَداعي الكلماتِ، بقدْرِ ما نقصدُ بهِ تداعياتِ الإيحاءِ في الصّوَرِ الشّعريّةِ المُتواليةِ. والقيمةُ الجَماليّةُ الثّانيةُ تَكمُنُ في المناجاةِ "المونولوج الدّراميّ"، وهو مُهِمّ، ومُفيدٌ  في المُحاورةِ "الدّيالوج"، كما أنّ لتوظيفِ الأسطورةِ قيمتُها السّياسيّة؛ لذلكَ فقدْ وظّفَتْ شاعرتُنا في نصِّها أسطورةَ الحوريّةِ البابليّة، ومَفادُها أنّ حوريّةً خلعَتْ مَلابسَها لتستحِمَّ في البحر، وقد تركَتْ ذيلَها الذهبيّ على الشّاطئ، فاستغفَلَها بعضُ الّلصوصِ المُغرِضينَ، وسَرقوا ذيلَها الذّهبيّ، فشَعرَتْ بمأساتها، فأخذتْ بمُناشدةِ أهلِها بإغاثتِها وإرجاعِ ثوبها الّذي هو عنوانُ جَمالِها وبهائِها، وهو جزءٌ مِن جسدِها، فهناكَ رابطٌ قريبٌ جدًّا بينَ ما حصَلَ للحوريّةِ، وما يَحصُلُ للعراق الّذي يُقتَّلُ أبناؤُهُ، وتُدَمَّرُ حضارتُهُ، وتُنهَبُ مواردُهُ، ويُفتَّتُ في طوائفَ ونحل وأديان.
و"إنّ الخطابَ الشّعريَّ حين يُوظّفُ الأسطورة، تنفلتُ القصيدةَ مِن أهمِّ مساوئِها التّقريريّةِ، والتّسجيليّة، والأيديولوجيّةِ المباشرة، ويُصبحُ الواقعُ شبكةً مِنَ الرّؤى الرّمزيّةِ المُتعدِّدةِ الأبعاد، والمُوغِلةِ في أعماقِ النّفسِ البّشريّة، وهنا يَمتزجُ الواقعيُّ بالمُتخيّل، والحُلمُ بالحقيقةِ، وتكونُ بذلكَ الأسطورةُ محاوَلةً لتغطيةِ البُعدِ الظّاهريِّ للأشياء، والذّهابِ مُباشرةً إلى جوهَرِها ذي الشّفافيّةِ المُعقّدةِ الدّلالة. لقد كانتِ الأسطورةُ بالنّسبةِ للشّعرِ العربيّ المُعاصِر، أداةً فنّيّةً وفِكريّةً لتكثيفِ دلالةِ القصيدة، وإعطائِها أبعادًا إنسانيّةً وجَماليّة، بالإضافةِ إلى طاقتِها الرّمزيّة، وقُدرتِها على تَجاوُزِ السّياقِ التّاريخيِّ الّذي وضعت فيهِ، لتَخلِقَ بذاتِها سياقًا فكريًّا وجَماليًّا جديدًا، ولكنّ الأسطورةَ أحيانًا تتجاوزُ هذا الدّوْرَ المُتواضعَ، إلى حيثُ تُصبحُ منهجًا أو رؤيةً في إدراكِ الواقع"(9).  
(وفِي مَحافِلِ التَّرَقُّبِ/ احْتَرَفْتَ تَضْميدَ حُرُوقِ حُرُوفي!): وها هو مَن عَملَ على تدميرِ العراقِ يُدمِّرُهُ، ويَدَّعي أنّهُ يُداوي جرحَهُ، ويُخلِّصُهُ مِنَ الدّكتاتوريّة، وذكرَت الشّاعرةُ الحروفَ (الجزء)، وأرادتْ بها الخطابَ "الكلّ" والدعاية، مجاز مرسل علاقته الجزئيّة. وفي السّطريْنِ السّابقيْنِ تقديمٌ وتأخير، وفي هذا انزياحٌ تركيبيّ، لتشويقِ المُتلقّي، وإبرازِ أهمّيّةِ المُقدَّمِ ولفْتِ الانتباه، فلقد قدّمَتِ الشّاعرةُ شبهَ الجُملة؛ "وفِي مَحَافِلِ التَّرَقُّبِ"، وحقُّها التّأخير على كلٍّ مِنَ الفِعل والفاعل والمفعول به، وحقُّ كلٍّ التّقديم "احْتَرَفْتَ تَضْمِيدَ حُرُوقِ حُرُوفِيٍ"؛ لتأكيد سكوت الغزاة وتأنيهم في تضميد جراح العراق. ويُبَيِّنُ ابْنُ جني حقيقةَ إدراكِ النُّحاةِ العربِ في اختلافِ لغةِ الشِّعرِ عن لغةِ النّثر، لأنّ الضّرورةَ سِمةٌ مِن سِماتِ لغةِ الشِّعر، وإنْ نظرَ إليها كثيرٌ مِنَ الّلغويّينَ على أنّها، "وصمةٌ وصَموا بها الشِّعرَ العربيَّ عن حُسنِ نيّةٍ منهم"(10). 
ولقدْ أكّدَ ابْنُ جني أنّ الشّاعرَ لا يَرتكِبُ الضّرورةَ لضعفِهِ وعدمِ مَقدرتِهِ، وإنّما لفيْضِ عِلمِهِ وقُدرتِهِ حينَ قالَ: "فمتى رأيتَ الشّاعرَ قدِ ارتكَبَ مثلَ هذهِ الضّروراتِ على قُبحِها، وانخراقِ الأصول بها، فاعْلَمْ أنّ ذلكَ على ما جشمهُ منه، وإنْ دلَّ، مِن وجْهٍ، على جُورِهِ وتَعسُّفِهِ، فإنّه، مِن وَجْهٍ آخرَ، مُؤذِنٌ بصيالِهِ وتَخمُّطِهِ، وليسَ بقاطعِ دليلٍ على ضعفِ لغتِهِ، ولا قُصورِهِ عن اختيارِ الوجْهِ النّاطِقِ بفصاحتِهِ، بل مَثلُهُ في ذلك عندي، مَثَلُ مَجرى الجُموحِ بلا لِجامٍ، ووارِد الحربِ الضّروسِ حاسرًا مِن غيرِ احتشامٍ، فهوَ، وإنْ كانَ مَلومًا في عُنفِهِ وتَهالُكِهِ، فإنّهُ مشهودٌ لهُ بشجاعتِهِ(11) . 
والشِّعرُ عندَ ابْنِ جني: "موضعُ اضطرارٍ ومَوقفُ اعتذارٍ، وكثيرًا ما يُحرَّفُ فيهِ الكلَمُ عن أبنيتِهِ، وتُحالُ فيهِ المُثُلُ عن أوضاعِ صِيَغِها، لأجلِهِ"(12). 
(ألْسِنَةُ بَوْحي النَّارِيِّ): كنايةً عن صُراخِ العِراقِ مِن ثِقَلِ ويْلِ النّكَباتِ. 
(ألْسِنَةُ بَوْحي النَّارِيِّ طَلَيْتَهَا بِوَشْوَشَةٍ انْبَجَسَتْ تَسْتَجيرُ:/ سَرابُ حُورِيَّةٍ أنا؛) كنايةً عن عدمِ اكتراثِ الغُزاةِ وأعوانِهم لصَرخاتِ العراق، وتُشَبِّهُ الشّاعرةُ صرَخاتِ العِراقيّينَ وعدمِ الاستجابةِ لهم، بصرَخاتِ الحوريّةِ عندما سُرِقَ ذيْلُها الذّهبيُّ، ولمْ يَسمَعْ لصرَخاتِها أحدٌ، فذهبَتْ كالسّرابِ.
يَا رُفَقاءَ الأَسْمَى/ بَوَّابَةُ سَمائِي مَحْفُوفَةٌ بِهَياكِلَ مَجْدٍ/ ساحَ ضَوْؤُهَا زَرْكَشَةً تَتَجَنَّحُ/ وما انْفَكَّتْ بِأَهْدابِ الذُّهُولِ تَتَمَوَّجُ/ اسْتَنيرُوا بِي!/ لَدُنِي الْمُقَدَّسُ كَمِ ازْدانَ بِأرْياشِ الشَّمْسِ/ وَمُنْتَشِيًا/ تَعَنَّقَ نَحْوَ عُشِّ النَّارِ: لقد استهلّتِ الشّاعرةُ السّطرَ الأوّلَ بأسلوبٍ إنشائيّ، وهو النّداءُ للتّحبُّبِ والتّقرُّبِ إلى الأحبّةِ والرّفاقِ، لكنّها تعودُ للأسلوبِ الخبَريّ؛ لتأكيدِ الذّاتِ والفخرِ بحَضارتِها ومَجْدِها التّليدِ، فتوحي بقوّتِها وصمودِها أمامَ الأعاصيرِ، فتقولُ: (بَوَّابَةُ سَمائِي مَحْفُوفَةٌ بِهَياكِلَ مَجْدٍ): كنايةً عنِ الماضي التّليدِ وحضارةِ ما بينَ النّهريْنِ.
(ساحَ ضَوْؤُهَا زَرْكَشَةً تَتَجَنَّحُ): كناية عن حضارة بلاد ما بين النهرين التي شاركت في بناء الحضارة العالمية.
(ومَا انْفَكَّتْ بِأَهْدابِ الذُّهُولِ تَتَمَوَّجُ): كنايةً عنِ استمراريّةِ تأثيرِ حضارةِ بلادِ ما بيْنَ النّهرينِ، في رفْدِ الحَضاراتِ الإنسانيّةِ.
(اسْتَنِيرُوا بِي): تعودُ إلى الأسلوبِ الإنشائيِّ، وهو الأمْر، ويُفيدُ النُّصْحَ والإرشادَ.
(لَدُنِي الْمُقَدَّسُ كَمِ ازْدانَ بِأرْياشِ الشَّمْسِ): أرادَتِ الشّاعرةُ أنْ تَنسِبَ الزّينةَ والبهاءَ إلى نفسِها؛ (حضارةِ ما بيْنَ النّهريْنِ)، فعدَلَتْ عن ذلك، ونَسبَتْهُ إلى ما لهُ اتّصالٌ بها، وهو لَدُنُها (ثوبُها)، كنايةً عن نِسبة. 
(وَمُنْتَشِيًا): لقد وظّفتْ شاعرتُنا أداةَ الرّبطِ "الواو"، وهذهِ التّقنيّةُ الأسلوبيّةُ ظهَرتْ بشكلٍ جَليٍّ في الشِّعرِ العربيِّ الحديث، حتّى باتَتْ تُشَكِّل أسلوبًا فنّيًّا، يُمكنُ أن يُفيدَ منهُ النّصّ، ويُحقّقَ لهُ مستوًى جَماليًّا فريدًا، وقديمًا صُنِّفَ هذا النّوعُ مِنَ الأسلوبِ تحتَ مُسمّى (الوصْلِ والفصْل)، بمعنى؛ أنّ الوصْلَ هو عطفُ جملةٍ على أخرى. وعكْسُهُ الفَصْلُ، وهذا مألوفٌ ومُتّبَعٌ في الجُملةِ النّثريّةِ الإيصاليّة. أمّا على مستوى الشِّعرِ، فيُصبحُ الأمرُ مُختلِفًا.
وقدْ (أبرَزَ الشّكليّونَ الرّوسُ الفُروقَ الجوْهريّةَ بيْنَ لغتَي النّثرِ والشِّعر، وأنّ هذهِ الّلغةَ الثّانية– لغةَ الشِّعر- تتَشكَّلُ على السّطحِ الأملسِ المُحايِدِ للُغةِ النّثرِ، وتُمارسُ فوقَهُ تنظيمَ نسيجِها ورُسومِها وخَواصِّها التّعبيريّةِ والتّصويريّةِ المُتميِّزة، ومنذُ أنْ طَرَحَ هؤلاء الشّكليّونَ مفهومَ الانتظامِ، بوَصْفِهِ خَصيصةً أساسيّةً لِلُغَةِ الشِّعر، ثُمّ طوَّرَ "رومان ياكوبسن" مفهومَ الأنساقِ؛ باعتباره؛ 
أوّلًا: خَصيصةً لِلُغةِ الشِّعرِ. وثانيًا: الآليّة الرّئيسيّة لخلْقِ ما سمّاهُ "ريان موكار وفسكي": التّأريض الأمامي Foregrounding. حاولتْ دراساتٌ مُتعدِّدةٌ اكتِناهَ التّجلّياتِ المُختلفةِ، المُحتملة للأنساق. وقد جَسَّدَ المُحدِثونَ هذهِ المَفاهيمَ والفروقَ الّتي تُمَيِّزُ لغةَ الشِّعرِ، بمُصطلحِ الانحرافِ الّذي يَعني؛ أنّ شِعريّةَ الّلغةِ تقتضي خروجَها الفاضحَ على العُرْفِ النّثريِّ المُعتادِ، وكسْر قواعدِ الأداءِ المَألوفةِ لابتداعِ وسائلِها الخاصّة، في التّعبيرِ عمَّا لا يَستطيعُ النّثرُ تحقيقَهُ مِن قِيمٍ جَماليّةٍ).(13) وهذا ما صالتْ فيهِ عبقريّةُ شاعرتِنا آمال. 
بِسُلَيْمانَ أَغيثُونِي/ بِأسْرابِ جِنِّهِ؛ تَحْفُرُ قاعَ بَحْري أَفْلاجًا/ تُهْدينيها في لَيْلَةِ عيدي/ مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الأَزْرَقِ/ لِتَهُزَّ قَلائِدُ سَمائِي غَيْثًا.. يَتَضَوَّعُ حُبًّا./ يا رُفَقاءَ الأَسْمَى/ مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الأَزْرَقِ/ وَزُفُّوا إِلَيَّ.. ذَيْلِيَ الْوَضَّاءَ!  
(بِسُلَيْمانَ أَغيثُونِي/ بِأسْرابِ جِنِّهِ؛ تَحْفُرُ قاعَ بَحْري أَفْلاجًا): وهنا تُوظِّفُ شاعرتُنا الأسطورةَ الّتي مفادُها، أنّ النّبيَّ سُليْمانَ بْنَ داود- عليهِ السّلام- أثناءَ تَحليقِهِ على بِساطِ الرّيح، مَرَّ على مِنطقةِ الفلّوجةِ في العِراق، ونزلَ عندَ أهلِها، فاشتَكَوْا لهُ قِلّةَ الماءِ عندَهُم، فأمَرَ سيّدُنا سُليْمان الجِنَّ والعفاريتَ بالبَحثِ عنِ المياهِ في جوْفِ الأرضِ، فقامتِ الجِنُّ والعفاريتُ بحَفْرِ الأفلاج، وأخرَجَتِ الماءَ إلى سطْحِ الأرضِ، ولهذا سُمِّيَتْ بالأفلاجِ الدّاوديّة، وهذا النّوعُ مِنَ الأفلاجِ ثابتٌ، وما يَمْحَلُ نهائيًّا، ولا يَنقطِعُ الماءُ منها، ولكن قدْ يَخِفُّ مستوى الماءِ الخارجِ منها، ولكنّها لا تَجِفُّ نهائيًّا، لأنّ أمّهاتِها عيونٌ ثابتةٌ، وبقِيتْ هذهِ الأفلاجُ إلى يومِنا هذا، ويُطلَقُ عليْها اسمُ "الدّاوديّ"، نِسبةً لِلنّبيّ سُليْمان بْنِ داود- عليهِ السّلام- وهذا النّوعُ مِنَ الأفلاجِ مُنتشِرٌ وبكثرةٍ في الإماراتِ وعُمانَ واليَمن، ولو وَصَلَ أحدٌ إلى أسفلِها في باطنِ الأرض، سيتعجّبُ كلَّ العَجَبِ مِنَ القُدْرةِ العجيبةِ الّتي شُقّتْ بها في الجبالِ، لو كانَ البَشرُ الّذينَ حفَروها، فكيفَ استطاعوا قطْعَ الصّخورِ بكلّ هذهِ الدّقّة؟ وكيفَ تَحمَّلوا البقاءَ تحت الأرض، وسطَ نُدرةِ الهواءِ، والحرارةِ الشّديدة، والضّغطِ العالي؟ ومِن هنا سنُصدِّقُ إذا قيلَ لنا، إنّ الّذي حَفرَها هُمُ الجِنُّ، رغمَ أنّ مَن حفَرَها بَشَرٌ، وهُمْ آباؤُنا وأجدادُنا الأقدمونَ، وأهلُ هذهِ البلادِ منذُ مِئاتِ السّنينِ. 
لكنّ شاعرتَنا يَبلُغُ التّوتُّرُ في نفسِها حُدودَهُ القُصوى، وتَكادُ تَنفجِرُ مِنَ المُفارقاتِ، استغاثتِ الفلّوجةِ بالمَلكِ سُليمانَ فأغاثَها، وتَستغيثُ الفلّوجةُ بالأهلِ والخِلّانِ والصّحْبِ والجيران، عندما حُوصِرَتْ وضُرِبَتْ بالأسلحةِ المُحَرّمةِ والفوسفوريّة، لكن لا مُجيب. ومِنَ الانزياحاتِ في النّصّ: (بِسُلَيْمانَ أَغيثُوني)؛ حيثُ تقدّمَتْ شِبهُ الجُملةِ، وحَقُّها التّأخيرُ "بسُليْمان"، على كلٍّ مِنَ الفِعلِ والفاعلِ، وحَقُّ كلٍّ التّقديمُ "أَغيثُوني". 
"بِأسْرابِ جِنِّهِ؛ تَحْفُرُ قاعَ بَحْري أَفْلاجًا": كنايةً عنْ طلَبِ الغوْثِ والخيْرِ والنّماء. 
(مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الأَزْرَقِ): أوضحتُ ذلكَ في حديثي عنِ العنوان، فالعراقُ يتوسّلُ، وهو بحاجةٍ للحضنِ الدّافئِ والحنانِ والرّحمة، وعودةِ الرّوحِ الجّماليّةِ الفتّانةِ لَهُ، بعيدًا عن ضَرْبِهِ واجْتثاثِهِ، وكَرّرتْ السّطرَ لتأكيدِ المَعنى، وتوليدِ إيقاعٍ موسيقيٍّ يَنتشِرُ في سطورِ القصيدة. 
(يا رُفَقاءَ الأَسْمَى): وقد تَكرّرَ هذا السّطرُ الشِّعريُّ، لتأكيدِ تَحبُّبِ الشّاعرةِ وتَقرُّبِها للرّفاقِ، فتستعْطِفُهُم، عسى أنْ يَسمَعوا صَرختَها.
(مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الأَزْرَقِ/ وَزُفُّوا إِلَيَّ/ ذَيْلِيَ الْوَضَّاءَ!): كنايةً عن حاجةِ العراقِ لوِحدةِ تُرابِهِ أرضًا وشعبًا، بعيدًا عنِ التّقسيمِ والتّفتيتِ والتّفرقةِ المَذهبيّةِ والدّينيّة. نلاحظُ أنّ الرّمزَ يَلفُّ ويُغلّفُ لغةَ الشاعرة، (ﻭﺍﻟﺭﻤﺯُ ﻤِﻥَ ﺍﻟﻭﺴﺎﺌلِ ﺍﻟﻤُﻬﻤّﺔِ ﻓﻲ ﺍﻟﺸِّﻌﺭ، ﻴَﻌﻤَﺩُ ﺍﻟﺸّﺎﻋﺭُ ﻓﻴﻪِ ﺇﻟﻰ الإيحاءِ ﻭﺍﻟﺘّﻠﻤﻴﺢِ، ﺒﺩلًا ﻤِﻥَ اللّجوءِ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤُﺒﺎﺸﺭﺓِ ﻭﺍﻟﺘّﺼﺭﻴﺢِ. ﻭﻫﻭَ ﻓﻲ ﺃﺒﺴﻁِ ﻤَﻌﺎﻨﻴﻪِ؛ "ﺍﻟﺩّﻻﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﻤـﺎ وراء ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻅّﺎﻫﺭ، ﻤﻊ عودة ﺍﻟﻤَﻌﻨﻰ ﺍﻟﻅّﺎﻫﺭِ ﻤﻘﺼﻭﺩًﺍ)(14). ﻭﻴﻌﻨﻲ ﺍﻟﺭّﻤﺯُ اكتشافَ ﺘﺸﺎﺒُﻪٍ ﺒﻴﻥَ ﺸﻴﺌﻴْﻥِ اكتشافًا ﺫﺍﺘﻴّﺎ، ﻓﻬﻭَ ﻻ ﻴَﺸﺘﺭﻁُ ﺍﻟﺘّـﺸﺎﺒﻪَ ﺍﻟﺤِﺴّﻲّ ﺒﻴﻥَ ﺍﻟﺭّﻤﺯِ ﻭﺍﻟﻤَﺭﻤﻭﺯ، ﻓﺎﻟﺭّﻤﺯُ "ﺒَﻌﺩَ ﺍﻗﺘﻁﺎﻋِﻪِ ﻤِﻥَ ﺍﻟﻭﺍﻗﻊِ، ﻴَﻐﺩﻭ ﻓِﻜﺭﺓً ﻤُﺠﺭّﺩﺓً، ﻭﻤِﻥ ﻫﻨﺎ ﻻ ﻴَﺸﺘﺭﻁُ ﺍﻟﺘّﺭﺍﺒُﻁُ ﺍﻟﺤِﺴّﻲّ ﺒﻴﻥَ ﺍﻟﺭّﻤﺯِ ﻭﺍﻟﻤَﺭﻤﻭﺯ، ﻓﺈﻥّ ﺍﻟﻌِﺒـﺭﺓَ ﺒـﺎﻟﻭﺍﻗﻊِ ﺍﻟﻤُـﺸﺘﺭﻙ، ﻭﻫﺫﺍ ﺍﻟﻭﺍﻗﻊُ ﺍﻟﻤُﺸﺘﺭﻙُ ﺍﻟﻤُﺘﺸﺎﺒﻪ هو ﺍﻟّﺫﻱ ﻴَﺠﻤﻊُ ﺒﻴﻨﻬﻤﺎ، كما ﻴُﺤﺴّﻪُ ﺍﻟﺸّﺎﻋﺭُ ﻭﺍﻟﻤُﺘﻠﻘّﻲ(15). وقبلَ ختامي لتحليلِ المقطوعة، فلا بدّ مِن ذِكرِ أنّ هذا النّوعَ مِنَ الأدبِ، أدبٌ إنسانيٌّ جديرٌ بالخلودِ، يَرفضُ البَغيَ والظّلمَ والجورَ، وهو روعةٌ في التّعبيرِ وجَمالٌ في التّصويرِ، وسبْكٌ في الأسلوب ووهْجٌ في العواطفِ، وتتجلّى في النّصّ الوحدةُ العضويّةُ والوحدةُ الموضوعيّةُ، والصِّدقُ الفنّي.  
الهوامش:  
1.ديوان (رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ)، الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، ص45 – 50. 
2.لسان العرب، ابن منظور، ص262 ج8، دار الحديث، القاهرة، 2002.  
3. المعجمُ الوسيط، إبراهيم أنيس ورفاقه، ص902، ط2، القاهرة.  
4. الآيروتيكيّة مفهومًا– مَبعثًا وتاريخًا، "رؤى"، آمال عوّاد رضوان، مقالاتٌ مِن مَشاهدِ الحياةِ الثّقافيّةِ والاجتماعيّة، ص41، دار الوسط اليوم للإعلام والنشر، رام الله، 2012. 
5. في الشعرية، كمال أبو ديب، ص143، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، 1987. 
6. الشّعريّة، تزيفيطان تودوروف، ص24، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، ط2/ 1980.  
7. في النّقد الأدبيّ،  الدكتور شوقي ضيف(ص130)، دار المعارف، القاهرة ط7.
8. النقد الأدبيّ الحديث، د.محمّد غنيمي هلال، ص 386، ط دار نهضة مصر.
9. الأسطورة والشعر محمد بوعزة، مجلة العربي، العدد 411 - 1993/2، الكويت.   
10. الخصائص، ابن جني ص 3/394. تحقيق محمّد علي النجّار، المكتبة العلميّة.
11. منهاج البلغاء وسراج الأدباء/ أبو الحسن حازم القرطاجني: 143-144، وينظر: الصاحبي في فقه اللغة/ أحمد بن فارس: 275 . 
12. من أسرار اللغة، د. إبراهيم أنيس، ص 253، مكتبة الأنجلو المصريّة ط4، 1978، القاهرة. 
13. انظر؛ د. صلاح فضل: إنتاج الدلاليّة الأدبيّة، هيئة قصور الثقافة المصريّة (ص: 240).‏ 
14. ﻓﻥّ ﺍﻟﺸﻌﺭ، ﺇﺤﺴﺎﻥ ﻋﺒﺎﺱ، ﺩﺍﺭ ﺼﺎﺩﺭ، ﺒﻴﺭﻭﺕ، ﻁ1، 1996، ﺹ200.
15.  ﻤﺤﻤﺩ ﻓﺘﻭﺡ ﺃﺤﻤﺩ، ﺍﻟﺭﻤﺯ ﻭﺍﻟﺭّﻤﺯﻴّﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺍﻟﻌﺭﺒﻲّ ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭ، ﺹ39، 1977، ﻁ1، ﺍﻟﻘﺎﻫﺭﺓ. 

CONVERSATION

0 comments: