الفنّان التَّشكيلي كابي سارة يعانقُ اخضرارَ الكروم ووجه معلولا المقدّس/ صبري يوسف

الفنّان التَّشكيلي كابي سارة في سطور
مواليد سوريا، المالكيّة/ ديريك 1957، الواقعة في أقصى الشِّمال الشَّرقي من شواطيء الرُّوح وابتهالِ القلب ليراعِ القصيدة.  
فتحَ عينيهِ على كروم المالكيّة وأشجار اللَّوز، قمّطَتْهُ سهول القمح وأريجِ الأزاهير والنَّرجس البرّي بإخضرار الحياة، لهذا جاءت لوحاته معبّقة بوهج الفرح وشهقة الطَّبيعة وهي في أوجِ تجلِّياتها بأبهى الألوان! 
تضمّخَتْ روحه وقلبه ببهجةِ البراري الفسيحة وتدفُّقاتِ المياه العذبة من نهرِ الدُّجلة، فالتحق بكلِّية الفنون الجَّميلة بحثاً عن أبهى الجَّمال! فتخرّج من عتبات الكلِّية عام 1982، محمَّلاً بألوان المحبّة والسَّلام كي يفرشها على أجنحةِ الحياة.
عضو في نقابة الفنون الجَّميلة، وعضو في جمعيَّة أصدقاء الفن في سورية. وعضو في جمعية الفنَّانين التَّشكيليين العراقيين في السُّويد. وعضو في جمعيّة البحث عن شهقةِ الانبهارِ في الجَّمال المنبعث من مآقي الزُّهور!                         
أقام عشرات المعارض الفرديّة والمشتركة في سورية، لبنان، والسّويد، تدور مواضيعها حول الإنسان، الطَّبيعة، حفاوة المكان،  والحنين إلى مرابع الطُّفولة الَّتي وشّحتْ روح الفنَّان بالصَّفاء والحبِّ وعناقِ رفرفاتِ اليمام!                       
أصدر الفنَّان التَّشكيلي والشَّاعر كابي سارة مؤخَّراً "الأعمال الشِّعرية 1" في ستوكهولم، تتضمَّن هذه الأعمال ثلاثة دواوين شعريّة: غجريّة ومطرٌ ناعم، أصدقاء وذكريات وشوارع، ومن وحي الحصار.                                             
وعلى ظهر غلاف "الأعمال الشِّعريّة 1"، نرى كيفَ يسلسلُ الفنَّان محبَّته لأوطانه، حيثُ يقول: الوطن الأوَّل سورية، الوطن الثَّاني السُّويد، والوطن الثَّالث: المحبّة، محبَّة الله والإنسان والفنّ! .. وإلى جانب اللَّوحة والقصيدة يكتب الشَّاعر والفنَّان التّشكيلي كابي سارة القصّة القصيرة ولديه مجاميع قصصيَّة مخطوطة ودواوين شعريّة أخرى في طريقها إلى النُّور.  
*****
يتميّز الفنّان التشكيلي السُّوري كابي سارة، المقيم في ستوكهولم، ببوحه وحسّه الفنّي الشَّفيف، المتناغم مع مواضيع لوحاته،  حيث تنساب من فرشاته أشواق معبَّقة بالفرح والحنين والحبّ، كأنّها رسالة فرحٍ منبعثة من طفولة متراقصة فوق روابي ذاكرة متلألئة في قلب الفنّان ومشاعره وخياله وهو في أوجِ حنينه إلى مسقط رأسه المالكيّة/ديريك، وإلى ذكريات الطُّفولة والشَّباب، وأيَّام الدِّراسة والأصدقاء الفنَّانين الَّذين تتراقص قاماتهم وتتعالى ضحكاتهم وكأنّه يسمع وهو في صومعته الفنّية أحاديث الأصدقاء ململماً حول روحه وقلبه عوالم دمشق وباب توما ومعلولا وريف الشِّمال، وتسطع أمامه قامة المدرِّسين في كلّية الفنون الجَّميلة، فهاهو الفنّان فاتح المدرِّس بحاجبيه الكثيفَين، والفنّان نذير نبعة، خزيمة علواني، نصير شورى، محمود حمّاد، ألياس زيَّات، وعزيز اسماعيل يتراقصون في محراب الذَاكرة، وتتراءى أمامه بحفاوة عميقة، قامات الأصدقاء مظهر برشين، عمر اسحق، عبدالأحد برصوم، يعقوب ابراهيم، محمَّد بعجانو، غازي عانا، أكثم عبدالحميد، نزار صابور، سعد القاسم، نجيب قصبجي، بسّام كوسا، هالة الفيصل، حمّود شنتوت، سعيد مخلوف، حبيب نعمة، غيث عبدالله، نبيل السّمَّان، جورج عشّي، ندى شحُّود، صبري يوسف، منيف سعد، جان يونان، جاك إيليّا، فايز خضّور، جمال باروت وسمير طحّان والكثير من الفنّانين والشُّعراء والأصدقاء المبدعين المعانقين لغربةِ الرُّوح!                                                                                                            
هؤلاء وغيرهم من المدرّسين والأصدقاء والصَّديقات، تركوا بصمات فنّيّة وأدبيّة وصداقات حميمة ظلَّتْ وما تزالُ معرَّشة في قلبه وذاكرته وتشمخ أمامه وهو في أعماق الغربة، بعيداً عن الوطن والأصدقاء والأهل، بعيداً عن المالكيّة ودمشق حيث الذّكريات الدَّافئة والحميمة تتبرعمُ ساطعة عبر لوحاته وأشعاره، جسّدها عبر هواجسه الفنّيّة والشِّعريّة، كأنّها وشم مقدَّس تتربَّع فوق وجنةِ اللَّوحات والقصائد عبر ترميزات لونيّة متراقصة فرحاً وحبوراً.
استلهم الفنّان من حبِّه لعوالم وفضاءات المكان والبيئة الَّتي ترعرعَ فيها تشكيلاتٍ لونيّة مخضّبة بخصوبة وارفة فوق خدودِ اللَّوحات، حيث اِستمدَّ من روعةِ كروم وسهول ديريك وقرى الشِّمال السُّوري، ومن دمشق القديمة ومعلولا الكثير من اللَّوحات، انسابتْ مياه دجلة فوق منعرجات حنين اللَّوحات، كأنّها رحلةُ شاعرٍ متعطِّشٍ لنداء انبعاث القصيدة على إيقاعِ حفاوةِ الألوان، معانقاً البيوت الطِّينيّة بحميمية دافئة، كأنَّها ضحكات أطفالٍ لتلألؤات النُّجوم، تناغي كروم ديريك وأشجار اللَّوز دقَّات قلب الفنّان، فيرسم ذبذبات حنينه فوق عناقيد العنب المتدلدلة من مروج الذَّاكرة، فتأتي منعشة للروح، مبرعمة باسترخاءٍ لذيذ فوق جفون اللَّوحات! يعبرُ أزقّة باب توما، دمشق القديمة، فتبدو وكأنّها أزقّته الَّتي ترعرع فيها، تحضنه بحميميّة عميقة، يتعانق مع حيطانها وسقوفها الخشبيّة وتداخلات عوالمها كأنها قصّة فرحٍ بناها الآباء لخلق حالة وئام بين الأحبة الَّذين يعيشون في كنفها. يرسم الفنّان حميميات المكان وكأنّه في حالة عشقٍ مع شموخ المكان، بيوت متعانقة كعناقِ البشر، هل كانت رسالة تلك البيوت المتعانقة، رسالة للبشر كي يبقوا في حالة وئام دائم رغم تصدُّعات هذا الزّمان؟!
استلهمَ الفنَّان من جبال معلولا وتلالها وجمال عوالمها ومعابدها الشَّامخة فوق مرتفعات الجِّبال، أجمل اللَّوحات عندما كان في سوريا ــ الوطن الأم، رسمها بأساليب وتقنيات متعدِّدة، لوحات شفيفة يفوح منها عبق البخور، وجبال شامخة شموخ الحضارة المنبعثة منها، متعانقة مع قبّة ممهورة بالقداسة وبراءة الأطفال. ورسمها في دنيا الاغتراب أيضاً، لكن هذه المرّة بمهارة وروحانيّة جديدة مسربلة بأشواقٍ مبلَّلةٍ بإيقاعاتِ صفاء وهدوء ستوكهولم، وفي كلِّ مرَّةٍ رسمها أضاف إلى معالمها شفافيّة فنّيّة جديدة ومعبَّرة عن الحالة الحنينيّة والحميميّة الَّتي تربطه بهذا المكان المقدَّس، الَّذي يشمخُ عالياً في فضاءات التَّرميز والتَّشكيل اللَّوني المنساب بحفاوة الضَّوء والنُّور المكتنز في مرامي تطلُّعات الفنّان! 
رسم الفنَّان آخر لوحة من وحي معلولا بوجهها المشرق في ستوكهولم، بعنوان: "شمس فوق معلولا"،  مجسَّداً حنينه المتجدِّد إلى ديرها الشَّهير وجبالها ومنعرجات دهاليزها وفضاءاتها الرّاسخة في حضارة تضرب جذورها في أعماق التَّاريخ، حضارة الآراميين الشَّامخة حتى الوقت الرَّاهن، من خلال جبالها ووديانها ولغتها ومبدعيها وأديرتها. شمسٌ ساطعة فوق هامات معلولا وفوق سورية، وفوق أرض ذات بُعدٍ حضاري تعودُ لآلاف السِّنين! أرى في اللَّوحات الَّتي رسمها من وحي عوالم معلولا وديريك وقراها ودمشق القديمة، توشيحات دافئة ونوراً ينعش القلب، كأنَّنا أمام لوحات متدفِّقة من محراب القدِّيسين، والَّذي ساعد الفنّان على تجسيد تجلِّيات هذه العوالم البديعة، هو محبّته العميقة لهذه الطُّقوس والأيقونات المقدّسة، والَّتي عايشها وعاش في كنفها منذ أن رأى النّور في ديريك، لهذا تعلَّق بعوالم معلولا وكأنّها تنعشُ طفولته وبدايات شغفه في أيقونات القدِّيسين والقدِّيسات في ديريك مسقط رأسه، وبالتَّالي كلّ مارسمه من وحي عوالم معلولا هو انعكاس لمرآةِ روحه التوَّاقة إلى المحبّة والجَّمال والصَّفاء والارتقاء بالوطن والإنسان نحوَ أقاصي سموِّ السَّماء!  
يرسمُ الفنَّان المتميِّز كابي سارة معلولا والأمكنة الحميمة الَّتي ترعرع فيها وأقام فيها، كأنّه في رحلة عشقيّة حلميّة أزليّة لحفاوة وقداسة المكان، يضفي على فضاءات اللَّوحة تدفُّقات جموحاته الفيَّاضة نحوَ النّورِ والشُّموعِ والسُّموِّ، يرى المُشاهد بسمةً هادئةً تنبعث من مُحيَّا اللَّوحة، كأنّها كائن حي تهمس لنا وتبتسم لنا وتفرح لفرحنا. هل تتحوَّل طاقات الفنّان إلى حالة أشبه ما تكون بإنصهار الذَّات في الموضوع الَّذي يعالجه فنِّيَّاً أو عبر نصّ أدبي ما؟! يبدو لي أنَّ هذه الحالة متطابقة إلى حدٍّ كبير مع شغف الفنَّان بمعلولا ودمشق القديمة والبيوت الطِّينية والكروم الَّتي رسمها في ديريك وريف الشِّمال السُّوري، المعبَّق بفضاءات الخصوبة والألوان، وقد وصل من خلال شغفه العميق بحميميّة المكان إلى مرحلة أشبه ما تكون مرحلة "النِّيرفانا"، من حيث حبّه وإنصهاره العميق مع سموِّ وقدسيّة المكان على أكثر من صعيد!                                
يقف الفنّان بعد أن يستفيقَ من أحلامه وأشواقه الدَّفينة إلى ما وراء البحار، ينثرُ ألوانه المبهجة فوق جبينِ معلولا المقدَّس، ألوان متطايرة من أعماق الحلم، يجسِّدها فوق خدود الفرح، موشّحاً شموخ جبال معلولا بألوان مكتنزة ببخورِ الأديرة القديمة، ومضمّخة بالحياة والسَّلام المتناغم معَ بهجةِ اللَّون، تناغمات لونيّة شفيفة تنساب من فرشاة ومشاعر كابي عبر تقنيات بديعة، كأنَّه يعكس لنا رسالة فرحٍ وطفولة من خلال عناقات لونيّة متراقصة فوق روابي ذاكرة متلألئة في قلب الفنّان وهو في أوج حنينه إلى دفءِ الشَّرق بكل ألقه وروحانيّته، وتسطع معلولا ودمشق القديمة وبراري ديريك وأزقَّتها وكرومها بكلِّ حفاوتها وألقها في أوجِ خيوطِ الحنين، ويجرفه الحنين إلى أصدقاء وألوان ولوحات رسمها أيام زمان من وحي ذلك المكان الحافل بتجلِّيات سموّ الرّوح، حيث يهفو القلب في كلِّ حين إلى تجسيد لوحات معرَّشة في ذاكرة حلميّة متلألئة بوهجِ الاشتياق إلى تجلِّياتِ حفاوةِ المكان، وكأنّه يريد إعادة صياغة الماضي عبر لوحات جديدة لعلَّها تخفِّف من وطأة غربةٍ فسيحة، غربة تزيده شوقاً إلى صباحات بعيدة منقوشة على تعاريج الذَّاكرة البعيدة، حيث تراقصات الألوان تنعش مساءاته القمراء. ذاكرة معجونة بنقاء الطُّفولة واخضرار البراري الَّتي جالها وهو يخطو خطواته الأولى بحثاً عن الفراشات والحمّص الأخضر، ثم عبر أعماقها في طفولته وصباه، فتوغَّلتْ ألوان الخصوبة والحياة في أعماقه منذ أن فتح عينيه على وجه الدُّنيا، وإلى أن حطَّ به الرِّحال عند شواطئ ستوكهولم حيث البحيرات تهدهد خياله وتعانق قلبه على إيقاع أمواجِ البحار!   
يشهق الفنّان شهيقاً عميقاً ولا يجد بُدّاً من البحث عن معراج الخلاص، أجدى وأبهى من ألوانه تخفِّف من غربته الفسيحة، فيفرش ألوانه المتدفِّقة من مشاعره وأشواقه وأحلامه الوارفة على منعرجاتِ لوحاته المزدانة بالمحبّة والجَّمال والدُّفء، ويصيغ منها رحيق أحلامه، وتأمُّلاته، وأشواقه، ودفء لياليه، موشّحاً أغصانها المورقة بانبعاثات خيوطِ الضَّوء ويكلِّلها بهلالاتِ الفرح وحفاوةِ الاخضرار من كلِّ الجِّهات، وكأنّه يقاوم غربة عميقة تجذَّرَتْ في لياليه الطَّويلة، كي يخلق عالماً هادئاً على مساحاتِ اشتعالاتِ الحنين، مخفِّفاً أقصى ما يستطيع من تفاقماتِ صخبِ الرُّوح!                                       
يصطفي الفنَّان كابي سارة مواضيع لوحاته من عوالم الطُّفولة البكر، بأسلوب طفلٍ حالم، وبأسلوب فنّان منصهر معَ طين الشِّمال السُّوري بكلِّ أزاهيره وكرومه وسهول قمحه، وطيوره ومروجه الممتدّة على مساحةِ الحلم، يرسم لوحات تجريديّة متداخلة مع ترميزاتٍ وتشكيلاتٍ عديدة، يرسمها بكلِّ هدوءٍ على أنغام فيروز، تناغي فرشاتُه صفاءَ الصَّوتِ الفيروزي، فيتناثر حبق الأنغام عبر الألوان على وجوه اللَّوحات وتماهياتها، فتنمو اللَّوحة بكلِّ ما في داخل الفنّان من روحٍ جماليّة، مستلهماً من جموحاته الحلميّة الكثير من الانبعاثات اللَّونية، مستمدّاً من الينبوع الأوَّل، الكثير من الهواجس والتَّدفُّقات اللَّونيّة، من بحبوحة الطُّفولة بمرافئها الرِّحبة، مركّزاً على توشيحات تقنيَّات لونيّة انسيابيّة في بناء لوحاته، عاكساً روحه الطُّفوليّة الصَّافية فوق مآقي اللَّوحات، كأنّه يزرع براءة الطّفولة وروعة الحياة في حنايا لوحاته وألوانه وخطوطه المتماهية مع عوالمه الحميمة وحنينه الجَّارف إلى حفاوةِ ماضيه المحفور في ثنايا الذَّاكرة، حيث غادر وطنه منذ أكثر من ربع قرن، لكنَّ المكان ــ الوطن بكلِّ جباله ووديانه وغاباته وسهوله ومدائنه وبيوته الطِّينيّة العتيقة، ظلّ منقوشاً بكلِّ ألقه على مساحات ذاكرته ومشاعره، فانعكس هذا الحنين الجَّارف، مُشبَّعاً بألوانٍ وأفكارٍ متشرّبة من بهاء الطّبيعة على لوحاتِهِ وأشعارِهِ.       
                                                                                                         
صبري يوسف      
أديب وفنَّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم                                                                               sasbriyousef1@hotmail.com

CONVERSATION

0 comments: