الفنان حيدر عباس العبادي.... اعماقه فرن للرسومات الخلاّقة/ الأب يوسف جزراوي

  ذات صباح وبينما أنا جالس اتناول قهوتي ومندمج بمراجعة مخطوطة كتابي "ملحمة كلكامش"  رنّ هاتفي الشخصي -الموبايل -  وكان المتحدث هو الرسّام المعروف حيدر العبادي، مستفسرًا عن مضمون اللوحة التي كنتُ قد كلفته برسمها منذ زمن لتزين  غلاف الكتاب المذكور. حينها حبست الالم في صدري، ومضيت للقول بنبرة الخجل: انني اود لوحة لكتابي "أفكار وتأمّلات من تُراب" وليس للذي ذكرته، لأن  الرسام العراقي المتألق د. وسام مرقس انجز لي العمل. ويجب أن أعترف هنا بأنَّ الرجلَ كان مرنًا ومتفهمًا ومهنئًا، وابدى استعدادًا وتحمسًا، فجرى الاتفاق على لقاءٍ  قريب تتم خلاله تلاقي الرؤى حول مضمون الكتاب ورموز الغلاف التعبيرية.
في مطلع شتاء عام 2012 تلقيتُ دعوة من قنصل لبنان السابق  السيّد ماهر الخير لحضور امسيته الشعرية التي اقامها في "الاوبرا هاوس" سيدني، فذهبت صحبة عميد الادباء المهجريين الأستاذ شربل بعيني، وهنالك رأيت الاستاذ حيدر الذي كان له معرض فني واسهام بتصميم ديكورات العرض المسرحي الذي رافق الأمسية الشعرية. تطلعت إليه ونظرت إلى جبينه فوجدت تاريخ العراق، امعنت النظر بوجهه ذي البشرة السمراء، فتذكرت بلدي. حدقت النظر في عينيه السوداوين وعرفت تلك الأوقات القاتمة التي قضاها في بلده.  تفرست به مُجددًا، وإذا بمتاعب رجل أنفق شبابه للفن ترتسم على محياه، كأنك تقرأ فيه تفاصيل اليمة وهموماً دفينة. رجل يبحث عن تفاصيل فنية تخرجه من قعر تلك الأيام المظلمة التي يصعب على الذاكرة نسيانها!
 صافحته وتعرفنا على بعض، ثم إنتحى بي جانبًا نحو جدارياته وبدأ يتكلم وأنا أتأمله بهدوء وأركز عليه، واستمع لحديثه العذب وهو يشرح لي ولغيري الرموز الظاهرة في لوحاته، حتّى إنني كنتُ لا أريد للوقت أن يمرّ وأتمنى على الساعة أن تتوقف، خصوصًا أنني مغرم منذ سنوات بمتابعة الفن والركض وراء جمال الالوان. وحين انتهى العرض في ليلة تألق فيها رسامنا أبن الفرات الاوسط، سرنا معًا إلى رواق مفتوح لنتناول المعجنات والعصائر، فشاطرته الخبز والملح، أو "الملح والزاد"، كما نقول في لهجتنا العراقية الدارجة، وادركت أسرار ريشته وطريقة عمله، ورحت أُشيد به كرسام رائع، وكمفكّر يحمل رؤية فنية جميلة، وكعزيز نفس لا يعطي لأحد سوى المحبة والانسانية والسمعة الحسنة. وهذا ما حفزني أكثر لكي يجمعنا عمل مشترك. ثم تجمع حولنا نخبة من رموز المشهد الثقافي العربي في سيدني وكانت هموم العراق وشجونه هي محور حديثنا، وكان طبيعيًا أن تستأثر بغداد  منبع الثقافات بالنصيب الأكبر من اهتمام الحاضرين.
إنّني أسعى هُنا من الكتابة عن الرسام العراقي حيدر عباس إلى أن ألفت الأنظار إلى نوعية من العراقيين الذين يمثلون خير تمثيل وطنهم الأم في تكوينه الثقافي وتنوعه الحضاري وتعدده الديني وتاريخه العريق في المهجر الاسترالي، ولا عجب فالفرات الاوسط يقذف بين حين وآخر بإبداعات فريدة وشخصيات نادرة. إنَّ الذي أعنيه اليوم يمثل شخصية فنية ينتمي إلى مدرسة الفن التشكيلي، ذات تاريخ حافل، قد لا يعرفه الكثيرون. فمن هو هذا الفنان التشكيلي المتألق؟
إنَّه حيدر عباس العبادي. ولِدَ في منطقة كريطعة الشعبية على ضفاف نهر الحلة  بتاريخ 28/12/1966. درس الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه، وفي عام 1982  حط الرحال في بغداد للدارسة في معهد الفنون الجميلة، فتخرج منه عام 1988. عمل مصممًا ورسامًا في دائرة الشؤون الهندسية منذ عام 1989 إلى عام 1991.
ولقد حكى لي ذلك النجم البازغ من مدينة الحلة في محافظة بابل العراقيّة عن اولى لوحاته التي انجزها وباعها وهو في السنوات الاخيرة من دراسته؛ ففي عام 1986 سعى إليه اثنان من المهندسين الأسبان  اللذان اشرفا على مراحل بناء مشفى الحلة، وهما السيّدان روفائيل ومانوئيل، وقد اعجبا إلى حدٍ كبير بلوحة من اشتغالاته "سوق الحلة القديم"، فلم يترددا بشرائها بمبلغ قدره 190 ديناراً عراقياً يومذاك؛ أيّ ما يعادل 600 دولار امريكي في يومنا هذا، وتلك  كانت اوائل عرانين سحابه الفنية.
اقام معرضه الفني الأول في بغداد عام 1987 تحت مسمى "الإنسان" شاركه فيه صديق دراسته الفنان باسم مهدي الذي يدير اليوم جمعية الفنانين التشكليين في لندن. افتتح ذلك المعرض باسلوب مُغاير غير مطروقٍ من قبل؛ إذ دخل الفنان محسن الشيخ من وسط لوحة السماء الزرقاء التي شُقت من منتصفها بفتحةٍ كبيرةٍ وهو يجسد رقصات مُعبّرة امام كلّ لوحة من لوحات المعرض اوحت للجمهور بمضامين الاعمال التي عرضت.
اقام معرضه الثاني عام 1988 في بغداد أيضًا،  يشاركه كلّ من الفنانين باسم مهدي و كاظم أبو مريم، وفي ذلك المعرض عمدَ إلى استخدام اسلوب رمزي استوحاه العبادي من عادات شعبية كانت شائعة بين ابناء مدينته؛ حيث كان الناس في الحلة يلقون بالنفط الاسود في نهر الحلة من أجل قتل الحشرات الطائرة. إلا أنَّ صاحبنا قام بوضع ورقة بيضاء في إناءٍ مزج فيه النفط الاسود بالماء، فحصل على اشكال غريبة طغت على سطح الورقة. فاعتمد الرجل ذلك الاسلوب في تنفيذ معرضه الثاني المشترك.
أصبح عضوًا في  نقابة الفنانين العراقيين، لكنه سرعان ما غادر العراق إلى عمان 1992 لاسباب سياسية بعد أن تقربت منه المصائب، فمن المؤسف أنَّ أعدادًا غير قليلة من العقولِ والمواهب في مجتمعاتنا العراقية تم إصطيادها بشبكة السلطة، لكن الرجل أبئ أن يكونَ اداة طيعة بيد الساسة، فهو شخص متفرد بما له وما عليه، لا يهوى الاقتراب من السياسة ولا يجد الدفء بالقرب من نيرانها الحارقة. اتجه إلى العاصمة الاردنية -عمان، وهنالك انتج الاف اللوحات باللونين الاسود والاحمر (رمز الحزن والحرب)، ولأن القانون الاردني كان ولا يزال يحجب ويمنع عن الفرد العراقي فرص العمل، وقع الرجل  ضحية لتجار الفن من ابناء الخليج، إذ كان واحدهم يبتاع اجمل اللوحات وانفسها بثمن بخيس جدًا، ثم يبيعها فيما بعد بما فتح ورزق. والحال لقد كان العبادي يقتات من بيع لوحاته. ورغم أنه عانى في تلك المرحلة من شظف الحياة، لكنه لم يتوقف عن اقامة  ثلاثة معارض فنية أمنت له إنتشارًا لا بأس به بين الوسط الفني الاردني.
في عام 1993 التقى بجبرا إبراهيم جبرا  قبيل وفاته بسنة، وجبرا  لمن لا يعرفه، هو فنان ومؤلف فلسطيني مسيحي من السريان الارثذوكس. درس في لندن ومن ثم درّس الادب الانكليزي في جامعات العراق. جبرا الذي يُعد المنظر الحقيقي للفن التشكيلي العراقي، اطلع على تخطيطٍ للعبادي عن ملجأ العامرية وعلى لوحات أُخرى، فكتب له على إحدى التخطيطات:"حس رائع للفجيعة يجعل من حيدر عباس فنانًا مأساويًا نادرًا في زمن لعين".
تزوج الاستاذ حيدر في العراق عام 1995 وعاد إلى عمان صحبة زوجته بسرعة البرق، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياة العبادي؛ فرسوماته غدت اكثر اشراقًا. وهو اليوم ربّ أسرة فاضلة كريمة، لديه ولدان وابنة واحدة، يحرص على تنشئتهم تنشئة   عراقية عصرية.
عام 2003 اقام معرضه الثالث (عن ملجأ العامرية) في النمسا، وهو معرض شخصي سبقته محاضرة عن اساليبه في الرسم قدمتها سيّدة نمساوية كان والدها برفسورًا  بجامعة ليز النمساوية.
وصل مع عائلته إلى استراليا 2005 حاملاً خيبته من وطنه. جاء الى سيدني تاركًا خلفه وطنًا اَلفَ الحروب وشهد خليطًا مروعًا من الدماء والدموع. إنها مأساة العراق ويا لها من مأساة!.
في سيدني قدّم اوراق اعتماده فنيًا بالشكل المطلوب، إذ لفنه اجنحة لا تحدها فضاءات. وما بين لوعة الفراق عن الوطن الام ودهشة الإكتشاف في المجتمع الجديد، شعر رسامنا العراقي بأنَّ لديه افكارًا  كثيرة يريد أن يراها في لوحاته؛ ففي داخله أبداع وفي تاريخه انجازات. لديه استقامة في الخلق وغزارة في الإنتاج ودقة في العمل فضلاً عن تصوفه الواضح الذي عمقه الرسم، ولكن القيمة الحقيقية لذلك الفنان التشكيلي العراقي  تأتي من أنه ارتفع بمهنته ورسالته الفنية إلى الصفوف الأولى في الحياة العامة بالمجتمع الاسترالي، فاستطاع أن يصبح مثقفًا متألقًا وشخصية عراقيّة معروفة قبل أنْ يكون فنانًا بارع الموهبة.
ولعلَّ أهم المحطات البارزة في حياته الفنية كانت في سيدني؛ حيث  اقام معرضًا شخصيًا وتصميمًا لديكور مسرحية في دار الاوبرا هاوس عام 2012 . كما حصل على 7 جوائز في الرسم عن مسابقات ومعارض فنية من مؤسسات استرالية. كتبت عنه وعن فنه الصحف الاسترالية والصحف العربية والعراقية الصادرة في استراليا، وتصدرت لوحاته مجموعة من اغلفة كتب الشعر والرواية والأدب للكتّاب: سرمد القيسي، ماهر الخير، اديب كمال الدين، الأب يوسف جزراوي، نضال الحار، وديع شامخ. في جعبته اليوم 8 معارض شخصية  وعشرات المشاركات في المعارض الجماعية داخل العراق وخارجه.
 ويعد  معرض "عالم اسماك  World Fish " وديكور مسرحية اسماك التي كتب نصها ومثلها الفنان عباس الحربي واخرجها  المخرج منير العبيدي من اخر اعماله. إذ اعتمدَ على  "ثيمة" السمكة في اعماله، لما تحمله السمكة من طاقة تعبيرية فيها تفرد وجمالية، فبالرغم من موت السمكة فإنّها تظلّ توحي للمُشاهد بأنّها حيّة من خلال النظر إلى عينها وقشورها .فهي  تفتح المعنى أمام المتلقي، وتعطي له أيضًا مساحة للتأويل .
اتخذَ من السمكةِ عنصرًا ليسلّط الضوءَ من خلالها على مآزق عالمنا المعاصر، وكيف تتعامل الدول الكبرى مع الدول الصغرى، وكيف بنو البشر يشبهون الاسماك إلى حدٍ كبير؛ حيث الأسماك الكبيرة تلتهم الأسماك الصغيرة دون أيّ أكتراث. إنّها السمكة رمزٌ للقوى المتفاوتة.
واذكر أنني كنتُ حاضرًا  في ذلك المعرض الذي افتتح  على هامش مسرحية اسماك في شهر نوفمبر 2014 بمركز الفنون التابع لبلدية فيرفيلد، فوجدتني اسرق ذاتي إلى لوحاته كمن يُجانب لمس تاجٍ رصعته اللآلئ. وقلت لنفسي من أين ابدأ؟ فلوحاته تناديني من كلّ صوب، وإذا بالرجل يطوف بي قاعة العرض، واعترف أنني ما أستطعتُ إدراكَ أشراقات ذاته وايقونات انامله.
حيدر عباس نموذجٌ لحرية الفن وسلامة القصد ووضوح الرؤية، جعل من الملاحظة والتأمّل عادة فيه. لحواره صفاء ولحديثه نقاء، الاستماع إليه مبعث سعادة وانبهار. يحمل ذاكرة حديدية وشخصية عصامية وروح دعابة لا تخفيها طباعه الجادة. مبدع دون أن يدّعي الابداع. يعرف كيف يُخمر رؤيته في الأعماق ليحوّلها إلى افكارٍ مشرقة، تتحوّل فيما بعد إلى لوحة فنيّة متالقة الجمال، غنية المعنى، سامية الرسالة. هذه كلّها اهلته  ليكون شخصية مرموقة في الوسط الثقافي الاسترالي وعضوًا شرفيًا في منتدى الجامعيين العراقي الاسترالي. وعضوًا في الصالون الثقافي، وفي تجمع فناني مدينة ليفر بول ارت سوسايتي.
عرفته على المستوى الشخصي منذ بضع سنوات وتواصلت بيني وبينه حبال المودة؛ بحيث أنّني زرت مرسمه في محل سكناه في مدينة ليفربول، فاستقبلني الرجل وعائلته بالكرم العراقي المعهود. وتنقلت بين زوايا ذلك المرسم الذي اعده ملتقى فكريًا وفنيًا للكثيرين. كنتُ أتنقل لاهثًا وراء اللوحات وأنا في حيرة من أمري واتمتم في سرّي: أية لوحة سيقع عليها اختياري أنا الشديد النحاسية؟. ولقد لمحت عيني لوحة لرجلٍ يجلس على الارض مسترخيًا في لحظة تـامّل بعد مسيرة حياتية مرهقة وهو يحتضن الة الكمان. فقلت له وجدتها واشرت في الحال إلى اللوحة. رشقني الرجل  بنظرةِ تعجب ثم رماني بابتسامة جميلة. مضت الشهور وتصدرت تلك اللوحة  الغلاف الآخير من كتابي ( أفكار وتأمُّلات من تُراب). وأذكر للرجل أنه كان قد وضع تحت تصرفي العديد من لوحاته يوم كنت في صدد تأليف كتابي "أحاديث قلم"، دون أن يتقاضى اجرًا على رسوماته. وكان أحد كبار المشاركين في حفل توقيع الكتاب، فكنت ابحث عنه بين الجالسين لاشكره بعد أن قدمته تقديمًا موضوعيًا وعادلاً يتناسب مع قيمته الفنية. فنظر إلي  في ارتياح مشوب بالرضا لا أنساه أبدًا.
احببت فيه استقلالية رأيه وانتصاره للحق وانحيازه للعدل وفهمه الصحيح لظروف الشعب الذي ينتمي إليه والمجتمع الذي خرج منه. ويحسب له أنه يجيد السير نحو مخارج الطوارئ والاختفاء عن الأنظار ثم الظهور مجددًا في إبداع منقطع النظير، فحين يجالس العبادي ذاته ويمتشق ريشته  بيديه فأعلم بأنّ اللوحة تطبخ على نارٍ هادئة وأقل ما يقال عنه بأنه رسام مُعبر. في فنه مزاوجة بين الواقع والخيال، وتزاوج نزعات شرقية وغربية. في لوحاته كلام  صامت وجمال فاتن، يستطيع المرء أن يتعرف على أسلوبه الفني قبل أن يتطلع إلى توقيعه، وهو بذلك واحد من قلائل الرسامين العراقيين الذين ينفردون بأسلوب معين يرتبطون به، وطريقة في التعبير يلتزمون بها، فعناصر "الفزاعة والسمكة والديك والمرأة العارية" طغت على رسوماته المُعبرة، لتشكل خصوصيته الفنية.
ولا زال اتذكر جيدًا أنّ احدهم قال لي يومًا عنه: "إنّه رجل عبوس لا ينتج الضحك، يتحدث عن المقهورين ولا يقترب منهم، تتحكم فيه نزعاته الطائفية". لكن بمجرد أن التقيت به وعرفته عن قرب وجدتُه رجلاً يجمع فسيفساء العراق وشهامة أبن البلد، مؤمنًا بدور الآخر وحضوره الثري، مدركًا لتنوع الإنسان وأهمية التعددية. وعرفتُ سرَّ الصورة العبثية التي رسمها له من لم يعرفه.  فالرجل يتميز بالادراك الصحيح لمفهوم المواطنة، علاوة على مناداته بضرورة الإنفتاح على الآخر واحترام معتقدات الغير وتقدير خيارات البشر مهما تعددت واختلفت في زمن رديء غابت عنه المحبة وانزوت القيم وشاع التعصب واستحكمت الفتن البغيضة، وتفشت ايدولوجية رفض الآخر المتنوع. ولقد اعلن الرجل على صفحته في الـFacebook  عن تضامنه مع ابناء وطنه من المسيحيين في محافظة نينوى يوم تعرضوا لهجمات داعش اللاإنسانية، ولم يكتفِ بذلك القدر بل إستنكر تلك الهجمات من خلال رسم لوحة العشاء الأخير بخصوصية فنية، ثم رسم لوحة كبيرة الحجم  لقدّاسة بابا الفاتيكان الحالي فرنسيس الأول. ولا تسقط من ذاكرتي اشادته لمقالٍ كنتُ قد دبجته في فترة زامنت تلك الأحداث واطلقته على صفحتي في الـ Facebook بعنوان" لقد آن الآوان لنعتنق ديانة الحُبّ وطقوس الإنسانية" الذي نشرته فيما بعد في عامودي الأسبوعي بصحيفة العراقيّة الأسترالية. وتعود بي الذاكرة إلى  كلماته البيضاء التي يرددها على مسمعي دومًا: " نحن رفيقا درب ومحبة ورسالة، يجمعنا العراق وتوحدنا الإنسانية". عندها تلاشت غربتي، وادركت أنَّ الكلمة الطيبة لا تغلبها سوى كلمة أفضل منها.
في اعماله الفنية لمسات غير نمطية، فهو فنان مختلف عن سواه من الرسامين، متأمّل خارج الصندوق، يعوم ضد المألوف، بسبب القيم الإنسانية النبيلة لأفكاره وخصوصية تأمّلاته الشخصية حول مصير الجنس الإنساني. يُحاكي الواقع باسئلة وجودية تطرحها اعماله. ولكن أهميته تنبع من زاوية أخرى وهي الثقة بالذات والإيمان بالآخر،  ينتمي إلى ذلك النمط  الطموح من البشر الذي يبحث عن الجديد دومًا ويقبل التحدي ويحفر في الصخر إذا اضطرته الأمور.
وعلى مدار سنوات تواجدي في سيدني  اكتشفت أنَّ العبادي له مريدوه من العراقيين والعرب والاستراليين وهم كُثُر ومن جميع المستويات الثقافية والاجتماعية، ويشعر الجميع بتفرده الفني وعمق رؤيته الإنسانية، إلى حدٍ دفعت بالناقد التشكيلي الأسترالي الكبير  "بيتر في"  بالتأكيد على خصوصيته الفنية في معرض الفزاعات  الذي استخدم فيه الفزاعة كأداة تعبير وتكنيك للتصوير، وتخصيص صفحةً كاملة للكنابة عنه في مدونته على الانترنت ليشيد بتجربته الثرية، بعد أن لاحظ اندماج ذلك الفنان العراقي مع المحيط الاسترالي من  خلال  هارموني الالوان المستخدمة.
لقد اهتم العبادي بالإنسان ورسمه في أجمل سماته، بعد أنْ رسمه  في صورٍ سوداوية عبّرت عن واقع الإنسان العراقي بشكلٍ خاص والإنسان الكوني بنحو ٍعام لما شهده  إنساننا من اهوال في عالمنا المضطرب؛ فصور الإنسان المتألم البارزة في  اشتغالاته ليست هي إلا تعبيرٌ عن عالمناِ البشري. لان الفنان الحقيقي هو كائن حي يتفاعل مع محيطه، يؤثر فيه ويتأثر به، على شاكلة  المرآة التي تشاهد الاحداث وتعكسها بطرق مختلفة. كما أنَّ كمية الحزن والالم التي تطفو على سطح اعماله هي نتيجة تحصيل حاصل لما مرّ به بلدنا المنكوب وشرقنا المسلوب وعالمنا المصلوب  جراء حروب وظلم وانتهاك للحريات بكلِّ مسمياتها، فيوم كان الرجل يعيش داخل اسوار الوطن في ظلِّ تلك المعاناة كان عليه ان يصورها وينقلها وتفاعل معها ليكونَ شاهدًا على ما حصل، فاعتمد اللغة البصرية كأساس للتعبير، جامعًا بين ثنائية التجريد والتجسيد  للبوح عن صراخات إنسانية نبعت من ليل العراق الطويل، وهو يمني النفس بأن يرسم صباحات بغداد المشرقة وأنْ يشم رائحة الوطن الذي طالما عبر عنه في لوحاته ورسم حنينه إليه. أما في استراليا  فلقد أثرت الطبيعة الخلاّبة مُشاهدته وشذبتها لتنعكس على لوحاته باللونين الابيض والأخضر وهما رمزان للسلام والإستقرار. أما رؤيته الفنية  فهي مستنبطة من الواقع، لان الفنان كالكاتب عليه أن يلتصق بالحياة ليستلهم منها ويعبّر عنها. ولهذا أعجبت باندفاعه للرقي واهتمامه الجميل بالإنسان.
ولا اخفيكم سرًا بأنَّ الرجل  سرَّ إلي ذات يوم أنَّ الرسم اتاح له التقرب من الله وفتح له أبواب التأمّل على مصراعيها، بعد أن وجدَ فيه علاجًا من نكبة الأيام، إلى حدٍ  أنه يشعر بالمرض عندما لا يمتشق ريشة الرسم. وحين تتكحل ريشته بالالوان تعود إليه فرحته المعتقلة وراء قضبان الذاكرة العراقيَة الموجعة. لقد رسمَ بعناءٍ واعتناء ليكونَ الفن ناقوس انذار للاجيال القادمة واداة توعية  لتحريم سفك الدماء وإشاعة لغة الحبّ والسلام، لأن الفن وجمال الالوان يؤنسنا الإنسان. وهنا تكمن رسالة الفن والفنان.
تأثر العبادي  بالفنانين العراقيين التشكيليين من جيل الستينيات أمثال رافع الناصري، محمد مهر الدين، سلمان عباس، ضياء العزاوي، ولعلّي هُنا ازعم القول بأنه امتداد لكبار الفن العراقي: فائق حسن، حافظ الدروبي الذي عُرف برسام بغداد، نوري الراوي، د. علاء بشير، نجيب الصائغ، د. وسام مرقس، والرسام الكردي محمد عارف، بعد أنْ مضىَ على دروب المبدعين من ابناء كاره الفني.
احتللت المرأة العارية حيزًا كبيرًا في لوحاتهِ، فعراء المرأة البادي للعيان في رسوماته ليس سوى رمز لعراء الإنسان المعاصر إزاء تحديات العصر الذي يحيا فيه وهو اعزل خائر القوى ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى دلالة على الى أنَّ الإنسان  في تكوينه خلق عاريًا، لم يكسُ جسده إلا بعد سقوطه في الخطيئة. بمعنى آخر؛ إنَّ العراءَ هو تعبيرٌ عن براءة الإنسان الذي يقف مكتف الايدي ومكبل الطاقة امام عالمنا المتلاطم الامواج، المتصارع القوى المتضارب المصالح.
رسمَ الثور المجنح والقيثارة البابلية، دون أنْ يلتفت إلى الملوية  الشاهقة الرمز العراقي الشامخ الذي يُعد من اهم اثار مدينته ومعالمها، سليلة الزقورة السومرية وبرج بابل العظيم.
إنّه ذلك الفنان الخلوق الذي كلّما رأيته عاتبته بمحبة على تكاسلة بإلوفاء لوعدٍ  كان قد قطعه لي بأنْ يرسم لي صورة شخصية تذكارية. أما هو فينبري  بدوره ليعاتبني بخلق رفيع على عدم حضوري فعاليات منتدى الجامعيين العراقي.
بقي أنْ أُضيف: إنَّ ذلك الفنان الذي أتطلع إلى لوحاته  كلّما استبدّ بي ضجر الغربة، قد رسم في اعماقنا أجمل صور الانسان. فحين اراه اشعر دائمًا أنني أمام سبيكة ثمينة من تاريخ ذلك الوطن المعطاء، وطن الكفاءات التي لا تنتهي ومستودع الخبرات الذي لا ينضب أبدًا، رغم أنّه لم ينل إلى الآن كلّ ما يستحق من بلده العراق، فلعلَّ العدل والتقييم ليسا من خصائص وطننا ولا من مظاهر الوجود فيه. ولأننا وللأسف الشديد نتباكى  على العقول المهاجرة والمواهب الضائعة بعد فوات الاوان، ولا ندرك قيمة ما أهملناه إلا عندما نكتوي بنيران الخسارة والفقدان.
هذا هو الفنان العراقي حيدر عباس العبادي أبو مريم، الذي ابدع بصمت الالوان، فكان صمته أجمل لوحة إبداع. إليه مني اصدق تحايا المحبة والسلام..
**
علق الفنان حيدر عباس العبادي بما يلي:

الأب الاستاذ يوسف جزراوي جزيل الشكر على هذه الجهود والكتابة عني بقلمكم شهادة اعتز بها اتمنا لكم الموفقية والمزيد من الابداع والتالق في عالم الادب لترفدنا بالجميل من الافكار والحكمة والكلمة الطيبة محبتي وتقديري ....والشكر موصول الى الشاعر الرائع شربل بعيني لاتاحة لنا هذه المساحة على صفحته وفتح لنا نافذة لنحلق معا ..محبتي وتقديري.

CONVERSATION