فيلم : طيور الظلام/ أنطوني ولسن

من ذاكرة كتاب " المغترب " الجزء السادس الصادر عام 2006 م .

Birds of Darkness – The Movie

    عندما خرج الزعيم عادل امام للجماهير مندداً لتفجيرات شرم الشيخ قائلاً لا للأرهاب ... لا لطيور الظلام ، شعرت بعودة تلك الرغبة الملحة للكتابة عن فيلم " طيور الظلام " انتاج وتأليف السيناريست الأستاذ وحيد حامد وتمثيل الزعيم عادل امام فنان مصر الأول وشاركته الفنانة القديرة يسرا مع الممثل الكبير نظيم شعراوي وكل من جميل راتب وأحمد راتب وعزت أبو عوف ونهال عنبر ، والذي أخرجه المخرج شريف عرفه ، ووضع الموسيقي التصويرية مودي الأمام .
  هذا الفيلم شد انتباهي كغيره من أعمال السيناريست العظيم وحيد حامد الذي يملك هذه الملكة التي يستطيع بها أن يغوص في أعماق المجتمع المصري ممسكاً بيد مشرطاً وبيد أخرى مصباحاً قوياً يسلطه على الجرح قبل أن تمتد يده الأخرى الممسكة بالمشرط لتبدأ عملية فتح كل موضع يسبب الألم الحاد في جسد هذا المجتمع المثقل بالأمراض النفسية منها والاجتماعية والدينية والأقتصادية . يقطع بالمشرط ويترك القطع أمام المشاهد ليرى ما بداخل هذا الجرح من صديد وقيح وأورام بعضها خبيث لا يمكن علاجه والبعض الآخر يحتاج ليد جراح ماهر يستطيع استئصال الداء الذي يكاد أن يفتك بهذا الجسد المريض الذي أعياه الاهمال وعدم الرعاية أو العناية به .
  في بداية الفيلم وفي شقة المحامي فتحي نوفل " عادل امام "  نراه ممسكاً بكوب شاي يحتسي منه وشباب الحي يلعبون كرة أمام المنزل ويضرب أحدهم الكرة بقدمه فتطير وتدخل شقة المحامي الذي يلتقطها ثم يضربها بقدمه فتطير في الهواء وتسقط فوق زجاج سيارة فتحطمه ونعرف أن سائق السيارة كان في طريقه الى فتحي نوفل المحامي مرسلاً من طرف الأستاذ شوكت عطية " نظيم شعراوي " الأستاذ الكبير في القاهرة .
  يقدم حسونة " عزت أبو عوف " القضية المرسلة من الأستاذ الى المحامي فتحي نوفل ويعرض عليه مبلغ الفين جنيه ليطلع على القضية ويدرسها ويكتب حيثياتها التي بناء عليها يستطيع الأستاذ شوكت الترافع في هذه القضية بأسلوبه وشهرته في الوسط القضائي .
  يرفض المحامي فتحي نوفل القضية طالبا عشرة آلاف جنيه . على الرغم من أن معظم أتعابه عن أي قضية يترافع عنها " كيلو كباب وكفته وزجاجة خمر مغشوشة " .
  يعود حسونة بالقضية الى القاهرة ليخبر الأستاذ الكبير بما قاله فتحي نوفل المحامي .
  في اليوم التالي يذهب المحامي نوفل الى المحكمة الأبتدائية في المدينة التي يعيش فيها والتابعة لاحدى محافظات مصر ليترافع عن " مومس " قبض عليها في قضية آداب .
  جلس في قاعة المحكمة يشاهد سير القضايا ومزاج القاضي فيفاجأ بقاضي متشدد دينياً لأنه حكم على رجل بغرامة 500 جنيه لأنه قبل ابنة شقيقته التي لم يرها منذ 4 سنوات . عندما اعترض محامي المتهم مؤكداً أن الرجل قبل الفتاة في الطريق العام . فكان رد القاضي وكيف يعرف الناس أنه خالها ؟ . هذه قضية حقيقية حدثت في القاهرة وصدر حكم بالغرامة بالفعل .
  خرج المحامي فتحي نوفل يبحث عن زميله المحامي الذي اتخذ الناحية الدينية طريقاً له ليطلب منه أن يدافع عن موكلته ، المقبوض عليها بتهمة الغاء .
  يستطيع المحامي أن يقنع القاضي بعد أن تلى عليه بعض من الآيات القرآنية ليثبت براءتها .
  يأتي الأستاذ بنفسه الى حيث يقيم فتحي نوفل المحامي ويتفق معه على انه لو أنهى القضية سيحصل على 20 في المئة من أتعابه المتفق عليها مليون جنيه . أي نصيبه مئتي ألف جنيه . يعطي حسونة القضية لنوفل وعشرة آلاف جنيه وزجاجة ويسكي .
  هذا خط من ثلاثة خطوط رسمها المؤلف كل منها يمثل شريحة من المجتمع المصري . خطوط متوازية ولا تلتقي أبداً وإن اعترضتها خطوط أخرى ولكنها لا تثنيها عن المضي في الأتجاه الذي رسمته لنفسها وهو الأستيلاء التام على البلد .
  الخط الذي اتخذه فتحي نوفل المحامي أستطيع أن أطلق عليه الخط الأنتهازي ينتظر الفرصة المواتية لينتهزها للوصول إلى الهدف . أما الخط الثاني فيمثله المحامي علي الزناتي " رياض الخولي " الذي ترافع عن سميرة " يسرا " التي ضبطت في قضية آداب وقد استطاع ان يقنع القاضي المتشدد ببراءتها .
  هذا الخط الثاني هو الخط الديني والذي بدأ يظهر وينمو ويكبر في مصر منذ عام 1976 .
  تعالوا نتابع هذا الحوار بين المحامي فتحي نوفل " عادل امام " الأنتهازي والمحامي الزناتي  " رياض الخولي " المحامي الديني الذي عرض على المحامي نوفل الذهاب الى القاهرة ليكون له مكتب خاص به ، فيسأله فتحي ..
فتحي : مع من سنعمل وما هو المقابل ؟
علي : مهمة المكتب الدفاع عن أصحاب الدعوة والمكتب هدية .
فتحي : ماحدش بيقبل هدية من غير ما يعرف مصدرها .
علي : مصدر شريف وطاهر تبرعات أهل البر والتقوى وأموال الزكاة ودعم قوي من دول غيوره على الأسلام .
فتحي : ومن إمتى كانت أموال الفقراء والمساكين بنعمل بيها مكاتب محامين .
علي : يووه .. ما توجعش دماغي بقى .. احسب لنا كام سنة متخرجين عملين إيه لغاية دلوقتي .. أوعى تكون فاكر احنا محامين .. احنا شغالين على الفتافيت .. العرضحالجية بيكسبوا احسن مننا .. الفرصة لو تجيلك علشان تعمل لك قيمة أوعى تقول لها لأ .
فتحي : يعني المسألة ..
علي : " مقاطعاً " .. مصلحتك فين .
فتحي : ح تاخد فلوس آه بس أوعى تنسى انك ح تكون ضد الدولة .
علي : وليه ما تقولش من الثائرين . الظاهر انك بتحب تترافع عن المطلقات والأرامل وبنات الليل .
فتحي : " بعد فترة صمت قصيرة " أنا زيك بالضبط مستني الفرصة بس الفرصة اللي على مقاسي وح تيجي .
  يظهر نشاط محامي الجماعات الأسلامية في القضية التي رفعها على وزير الثقافة وعلى المحافظ وعلى مدير الرقابة يطالبهم برفع اعلانات السينما من الشوارع ، ويكون تعليق المحامي فتحي نوفل عن نشاط المحامي علي الزناتي والذي علق عليه الزملاء انه دعاية عن نفسه فيكون رد فتحي ..
فتحي : علي الزناتي يعمل اعلان آه .. بس مش اعلان عن نفسه دا اعلان عن تنظيم .
  يكسب الأستاذ الكبير القضية ويأخذ فتحي أتعابه ويذهب الى القاهرة ومعه سميرة التي قبلت العمل معه وتترك مهنة البغاء على الرغم من أنها سوف تتقاضى 500 جنيه فقط بدلاً من ألف جنيه الذي كانت تكسبه في الشهر من البغاء .
  وفي الشرفة العالية في الأوتيل ينبهر فتحي بمنظر المدينة فيقول ...
فتحي : البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت .
سميرة : إنه أحلى .. اللي فوق واللا اللي تحت .
فتحي : اللي عايز يشوفها حلوة على طول يشوفها من فوق دايما .
سميرة : أول مرة تسكن في العالي .
فتحي : أول مرة .. بس مش ح تكون آخر مرة .. تحت فيه خنقه .. زحمة وفقر وهوا فاسد وناس ماشية في الشوارع بتخبط في بعض . إحنا خلاص مش ح نعيش تحت تاني .. ح نعيش دايما فوق
  ننتقل الى جزء آخر من الفيلم ونجد الوزير رشدي الخيال " جميل راتب " ،  يواجه مشكلة ترشيحه من قبل الحزب في دائرة مرشح فيها منافس من أهل الدائرة صعب عليه منافسته فيقترح عليه الأستاذ المحامي الكبير شوكت بك عطيه أن يستعين بالمحامي فتحي نوفل . يوافق الوزير ويبدأ حملة الأنتخابات والتي يتولى إدارتها المحامي نوفل .
  يذهب فتحي الى زميل له في الجامعة كان مشهود له بالشعارات الثورية القوية ليستعين به في هذه الحملة .. تعالوا نتعارف على الخط الثالث في دراما هذا الفيلم من خلال هذا الحوار .
فتحي : عايز خبرتك .. أنت أصلك طول عمرك كنت بتفهم في الأنتخابات . كنت أحسن واحد بتاع شعارات . كنت ثوري أنا عارفك .
محسن : " أحمد راتب " هو رشدي الخيال دا ثوري !!.
فتحي : ثوري بقى واللامش ثوري احنا مالنا بقى دا شغل .
محسن : يعني خلاص يعني مطلوب مننا نعمل أي حاجة لأي حد يدفع .
فتحي : سِلو بلدنا كده .
ينتهي الحوار دون موافقة محسن على الرغم من العرض المالي الذي عرضه عليه زميلة فتحي . هذا الخط الثالث الذي يمثله محسن . خريج الحقوق أيضاً ولكنه لا يحب الكذب فيتحول الى مهنة الأرقام التي لا تكذب ويسير في مواجهة الحياة دون انحراف أو تنازل عن مبادئه مهما كانت الظروف .
  هكذا نرى ثلاثة خطوط متوازية تشغل حياة الأنسان المصري . الخط الديني المتطرف ، الخط الإنتهازي الذي على أتم إستعداد لبيع نفسه من أجل المنصب والمال ، و الخط المعتدل الذي لا يمكن له أن يفرط في مبادئه أو يبيع نفسه لا من أجل المال أو المنصب ، وهو خط غالبية الشعب المصري المطحون الذي أخذوا قوت أولاده وتركوه يعيش على القليل.
  أما التنافس والتطاحن بين الخطين الأولين ينتهي بهما إلى المعتقل حيث تم القبض عليهما كل على حدة ، لكنهما يلتقيان في المعتقل حيث نجد مع علي الزناتي كُرة قدم ويتبادل مع فتحي نوفل اللعب بها ، لكنها تبتعد عنهما بعد أن ضربها علي بقدمه في اتجاه آخر غير اتجاه فتحي . يتوقف الأثنان عن الحديث وينظران الى الكُرة . في لحظة واحدة يجريان صوب الكُرة ويصلان اليها سوياً، يركلها كل منهما بقدمه في نفس الوقت . تطير الكُرة وتخرج خارج المعتقل وتسقط فوق زجاج فتحطمه ..
  وينتهي الفيلم كما بدأ .. كُرة تحطم زجاج سيارة ، وكُرة ترتطم بزجاج في المدينة فتحطمه ...
  الفيلم مليء بالحوار الذكي . الحوار الذي كان يجب أن تنتبه اليه الحكومة المصرية حتى لا تصل البلاد الى ما وصلت اليه الأن .
  التشدد الديني أصبحت له اليد العليا في مصر . وهاهو الصراع بين الحكومة وهذا التيار الديني الذي بدأ يأخذ شكل العلن . وهاهي التظاهرات التي تعلن رفضها للتجديد بالنسبة للرئيس مبارك وترفض أيضا التوريث لنجله جمال . ولربما هذه الأنتخابات الرئاسية لهذا العام 2005 قد تخرج منها الجماعات الدينية والتي على رأسها جماعة الأخوان المسلمين المحظورة ، بصفقة توسع بها نفوذها بأن تشارك في الحكم مع أي رئيس مرشح يفوز في الأنتخابات . وهكذا تكون قد نجحت الآن فيما فشلت في تحقيقه مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .
  لا أحد يستطيع التكهن بما تخبئه الأيام وماذا ستفعل طيور الظلام بمصر ؟؟!!.
  الشيء الوحيد الذي أعيبه على الحكومة المصرية والكثير جداً من حكومات العالم العربي وغير العربي .. أنها لا تقرأ .. وإن قرأت فأنها لا تفهم .. وإن فهمت يكون قد فات الآوان وأصبح اصلاح الحال من المحال .
  تم نشر هذا المقال بجريدة "" المستقبل " / أستراليا في 27 / 8 / 2005
 القراء الأعزاء ، أترك لكم المقارنة بين وقت كتابة هذا المقال وبين ما تعيشه مصر الآن ، ولا شأن لي بتعليقاتكم .. وشكرا .
سدني في 3 / 6 /  2005

CONVERSATION

0 comments: