الورقة المصرية استنساخ لاتفاق الهدنة/ د. مصطفى يوسف اللداوي

كأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، على الأرض نفسها، وللأسباب ذاتها، وبين الفرقاء والأطراف أنفسهم، وبنفس الوسطاء الدوليين، وتحت مظلة الأمم المتحدة مرةً أخرى، وبرعاية ومباركة أمينها العام، لكنه يعيد نفسه بصورةٍ أقسى وأشد، وأكثر إيلاماً وأبلغ وجعاً، إذ فيه استخفافٌ بالفلسطينيين واستفرادٌ بهم، وتخلي عنهم، ومحاولة لخديعتهم والتغرير بهم، وجرهم إلى اتفاقٍ مذل، ومعاهدة مخزية، تضيع الحقوق، وتفرط في التضحيات، وتثبت وقائع جديدة، وكأن العرب لا يتعلمون من ماضيهم، ولا يقرأون تاريخهم، ولا يستفيدون من خيباتهم، ولا يعون الدروس التي مروا بها وآباؤهم، فيقعون في ذات الأخطاء، ويسقطون في نفس المزالق.
في العام 1948، وبعد أن احتلت العصابات الصهيونية مساحاتٍ كبيرة من أرض فلسطين التاريخية، وسيطرت عليها بقوة السلاح، وطردت مئات آلاف الفلسطينيين من أرضهم وبلداتهم، واستولت على مساكنهم وبيوتهم، وحلت فيها مكانهم، كانت الجهود الدولية كلها منصبة باتجاه وقف إطلاق النار فقط، وتأمين القوات العسكرية الصهيونية، التي كانت تحتاج إلى الهدنة لتثبيت نفسها، دون المطالبة بخروجها من البلدات التي احتلتها، وتخليها عما استولت عليه من أراضٍ بقوة السلاح.
كانت المفاوضات تجري بين العصابات الصهيونية والدول العربية بواسطة الأمم المتحدة، لكنها كانت برغبةٍ إسرائيلية، لحاجتها إلى التهدئة، وأهميتها بالنسبة لها في ذلك الوقت، لتثبيت وقفٍ فوري لإطلاق النار، على أن يتبعه مفاوضات مفتوحة بين الطرفين، للتفاهم على الأوضاع المستجدة، والتوصل إلى حلولٍ مشتركة. 
لم تكن هناك نقاط متفق عليها للحوار، ولم تفرض شروط مسبقة كعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل مايو/آيار من العام 1948، ولم تكن هناك آلية لعودة مئات آلاف اللاجئين إلى بيوتهم وقراهم، بل ركزت المفاوضات على الحفاظ على الأوضاع الراهنة المستجدة، والتي تعني اقتطاع 70% من أرض فلسطين التاريخية، وبقاءها تحت السيادة الإسرائيلية، إلى حين إجراء مفاوضات بين الفرقاء لتحديد الصورة المستقبلية والدائمة للأرض والسكان، وتركت هذه القضايا الأساسية للضمير الدولي والنوايا الإسرائيلية، التي كانت مبيتةً ومحسومةً لدى الطرفين معاً، بأنه لا عودة إلى الوراء، ولا تراجع عن المكتسبات.
وهكذا كانت الهدنة الأممية الأولى التي أنهت الحرب، وأوقفت إطلاق النار، وفرقت العرب إلى اتفاقياتٍ مستقلة، في رودس ورأس الناقورة، الخطوة الأولى نحو تأسيس الكيان الصهيوني، وتكريس واقع الاغتصاب، إذ أصبحت الهدنة الطويلة الأمد هي الأساس، واعتبرت أي محاولة لاستعادة الحقوق، والعودة إلى الأرض، وإعادة السكان، بمثابة خرق لاتفاق إطلاق النار، وتهديد للهدنة القائمة بين الفريقين، وبدلاً من أن تقوم الأمم المتحدة بضمان استعادة العرب لحقوقهم، قامت برعاية اتفاقيات ضمان منع الاعتداء العربي على دولة الكيان الصهيوني الجديدة، وما زال العرب إلى الآن يحتكمون إلى اتفاقيات الهدنة، التي أصبحت القاعدة القانونية والمرجعية الدولية لأي خلافٍ أو نزاعٍ بين الطرفين.
إنه الحال نفسه يتكرر، فالعدو الصهيوني يريد وقفاً لإطلاق النار، وإنهاءً لحالة الحرب القائمة، وفق هدنةٍ طويلة، ترعاها الأمم المتحدة، على أساس نزع سلاح المقاومة، وتحويل قطاع غزة إلى منطقة منزوعة السلاح، ليأمن العدو الصهيوني هذه الجبهة، ويتفرغ للعمل الاستيطاني في القدس والضفة الغربية، ويبدو أن الأنظمة العربية التي وافقت على الهدنة القديمة، وفرضتها على جيوشها بالقوة، هي نفسها اليوم التي تريد أن تفرض الهدنة الجديدة، بالشروط الإسرائيلية، والضمانات والكفالات الدولية التي كانت، والتي أشرفت على رعاية تأسيس الكيان وضمان استمراره آمناً مطمئناً. 
لا أدعي أن الفلسطينيين في قطاع غزة، أنهم ليسوا في حاجةٍ إلى تهدئة تعيدهم إلى الحياة، وتمكنهم من التقاط أنفاسهم، وأخذ قسطٍ من الراحة لنفوسهم وأجسادهم، التي أنهكتها الحرب، ومزقتها القذائف، وهدنةٍ تمكنهم من استعادة بناء ما دمره العدوان، بل هم في حاجةٍ ماسةٍ لها، ليستجموا عن عناء الحرب المتواصلة، وليتفرغوا لدفن شهدائهم، وتضميد جراحهم، وإزاحة الركام وإبعاد الردم الذي ملأ شوارعهم، بعد أن دمر بيوتهم ومساكنهم ومساجدهم، ليباشروا حياتهم المجهدة من جديد، ومواصلة عملهم المعدوم مرةً أخرى.
لكن الفلسطينيين الذين كوتهم الهدنة الأولى، ودمرت حلمهم القديم في دولتهم ووطنهم، لا يريدون أن تكون الهدنة الجديدة على حسابهم، ولا أن تكون التهدئة لصالح عدوهم، إذ لا يقبل عاقلٌ أن يتوقف عن مقاومة من قتل أهله، ودمر بيته، واعتقل إخوانه، في الوقت الذي يتهيأ فيه لمعركةٍ أخرى، يكرر فيها ذات الجرائم، ضد نفس السكان والمناطق.
فحتى تكون التهدئة منطقية ومقبولة، وتكون مخالفة لاتفاقية الهدنة لعام 48، ينبغي أن تطرح كل الملفات على الطاولة، وأن يتم الحوار حولها مرةً واحدة، وأن تتخذ القرارات المتعلقة بها مسبقاً، ليعرف الفلسطينيون مآل تضحياتهم، ونتيجة صمودهم، وإلا فإن العدو ماكرٌ خبيث، لا يؤمن جانبه، ولا يصدق كلامه، ولا ثقة في وعوده وتعهداته، والمجتمع الدولي كاذبٌ ومخادع، لا يعدل ولا ينصف، ولا يناصر الحق، ولا يقف مع المظلوم، بل عودتنا سيرته أن يكون دوماً مع العدو الظالم ضد الفلسطينيين وهم الضحية، وعلى الأنظمة العربية أن تعي ماضيها، وأن تتعلم من تاريخها، وأن تكون نصيرةً لأهلها، وعوناً لأمتها، لا أن تكون بيد العدو سيفاً يقتل، وسكيناً تقطع، وخنجراً يطعن.
الأربعاء 14:20 الموافق 23/7/2014 (اليوم السابع عشر للعدوان)
**
مجمع دار الشفاء وثلاجة الموتى في غزة
لعله من أكثر الأسماء تداولاً وذكراً في قطاع غزة، فلا يكاد يخلو يومٌ دون أن يأتي الناس على ذكره، أو يُدخلون إليه مريضاً أو يخرجون منه آخر، أو يقومون بزيارة مريضٍ فيه أو عيادة جريحٍ أو مصاب دخل إليه، أو يتصلون به ويستفسرون من إدارته، وتكاد بوابته الخارجية لا تخلو من سيارات الإسعاف الداخلة إليه أو الخارجة منه، تحمل المرضى والمصابين، والمسنين ومن هم في حالةٍ حرجة، في حركةٍ دائبةٍ لا تتوقف، ونشاطٍ لافتٍ لا يفتر.
أما باحاته الداخلية وأفنيته العامة، وحدائقه الصغيرة المتفرقة، وأماكن الجلوس المعدودة، ففيها مئات الناس ينتظرون بلهفةٍ، ويجلسون بقلق، أو يمشون ذهاباً وإياباً، يشعلون سيجارة، أو يضعون أيديهم معقودةً خلف ظهورهم، وآخرون يجلسون صامتين أو يبكون، يقرأون القرآن أو يدعون، يتحدثون بصمت، أو يتهامسون بخوف، وكلهم ينتظر خبراً أو يترقب نبأً، سلامةً أو وفاةً، شفاءً أو موتاً.
ما من فلسطيني في قطاع غزة إلا ويعرف مجمع دار الشفاء بغزة، ويعرف أقسامه وعنابره، وساحاته وباحاته، ومداخله ومخارجه، وأطباءه وممرضيه، وإدارييه والعاملين فيه، لا أقول إنهم يحبون هذا المكان ويعشقونه، وأنهم يقدرونه ويبجلونه، وأنهم يحنون إليه ويشتاقون إلى زيارته، بل إن أكثرهم له كارهون، ومنه ينفرون، وعنه يبتعدون، وبالله من أيامه ولياليه يستعيذون، ويسألون الله ألا يدخلوه يوماً مرضى أو زائرين، فهم لا يستبشرون بهذا المكان، ولا يشعرون فيه بالراحة والرضا والاطمئنان.
إنه مجمع دار الشفاء الجديد، وهو نفسه مستشفى الشفاء القديم الكائن في وسط غرب مدينة غزة، تغير الاسم وبقي المبنى، وتبدل الشكل وحافظ المستشفى على دوره ووظيفته، وأبقى على أطبائه والعاملين فيه، وما زال هو المستشفى الأكبر والأضخم في قطاع غزة، الذي يؤمه أغلب المرضى، ويدخل إليه أغلب المصابين، ولكن مساحته تضاعفت، وأقسامه تعددت، وتخصصاته كثرت، وزاد عدد العاملين فيه، وأصبحت أسرته أكثر، وبات يتسع لمرضى أكثر.
إلا أنه يبقى دوماً في حاجةٍ إلى المزيد، وينقصه الكثير، ويلزمه تطويرٌ دائم، وتوسعة مطردة، وميزانياتٌ أكبر، واهتمامٌ أوسع، ذلك أنه المستشفى الأكبر في قطاع غزة، بل إنه المستشفى الأم، والمرجع الأهم، الذي تلجأ إليه كل المستشفيات ومراكز الاستشفاء الأخرى، التي لا تستغني عنه، ولا تستطيع العمل دون التعامل معه، أو الاستفادة من قدراته وطاقاته.
تتجلى قدرات مستشفى دار الشفاء بقوةٍ في ظل الأحداث والحروب، وخلال المعارك والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، حيث يكون المستشفى حينها موئل المصابين، وسجل الجرحى والشهداء، وفيه تتم الإحصائيات، وتصدر التقارير، وتدون البيانات، وعلى بواباته تعقد المؤتمرات، ويتجمع الصحفيون، وفيها يكشفون عن حجم الجرائم، وعمق الاعتداءات، وحال الإصابات، وعدد الجرحى والشهداء.
ولعله الجهة الرسمية المتخصصة في بيان حجم الجرائم الإسرائيلية، وفضح الأسلحة المحرمة التي يستخدمونها، وكشف حقيقة الغازات الكيميائية والسامة التي يحاربون بها الفلسطينيين، وهو المستشفى الذي كشف عن جريمة استخدام الإسرائيليين لقذائف تحوي مادة الفوسفور السامة، التي أدت إلى حالات استشهادٍ عديدة، وتسببت في أمراضٍ مستعصية، ومظاهر مرضية قاسية، طالت الأطفال والنساء والشيوخ، في الوقت الذي يصعب فيه في المستشفى تشخيص هذه الحالات، أو تقديم العلاج المناسب لها، لعدم توفر الأدوية الخاصة بمثل هذه الأسلحة المحرمة دولياً.
مستشفى دار الشفاء بغزة، وإن كان مكاناً غير محبوبٍ لدى الناس، ولا يتمنون دخوله، لما فيه من حالاتٍ مأساويةٍ قاسية، تتفطر لها القلوب، وتدمي لهولها العيون، إلا أن المواطنين في غزة يتطلعون إلى تطوير هذا المستشفى ودعمه، وتقديم المساعدات له، فهو في نهاية الأمر يخفف عن المرضى، ويقدم العلاج للمصابين، وإن كان أحياناً يحتفظ في ثلاجاته بأجساد الموتى والشهداء.
لم ينجُ مستشفى الشفاء من عمليات القصف الإسرائيلية الوحشية، إذ طالت صواريخه أكثر من قسمٍ فيه، فعرضت حياة المرضى للخطر، ودمرت محتويات الأقسام، وخربت الأجهزة والأسرة والفراش، وقطعت عنه الكهرباء، وهو ما ينعكس كثيراً على حالة المرضى، خاصة الذين يخضعون للعناية المركزية، أو الأطفال الخدج حديثي الولادة، أو الذين يلزمهم غسيل كلى، كما يؤدي قطع الكهرباء عن أقسام المستشفى، إلى توقف العمليات الجراحية، لتعذر إجرائها بدون الأجهزة الطبية والإليكترونية المساعدة، الأمر الذي يزيد من حجم الأزمات والعقبات التي يواجهها المستشفى.
كثيرون هم الأطباء العرب والدوليون الذين زاروا مستشفى دار الشفاء، وتعرفوا عليه وعلى أقسامه، وعرفوا مشاكله وأدركوا تحدياته، وعلموا بحاجاته وضرورياته، وبعضهم قد تطوع فيه واشتغل، وأجرى عملياتٍ جراحية، وتابع حالاتٍ مرضية، خاصة أثناء الحروب وفي ظل الحصار، ما جعلهم يرفعون الصوت عالياً مطالبين برفع الحصار عن قطاع غزة، ووقف الحرب المعلنة عليه، داعين المجتمع الدولي لزيارة مستشفى الشفاء للشهادة على حجم الجريمة النكراء التي يرتكبها الإسرائيليون ضد سكان قطاع غزة.
مستشفى دار الشفاء وإن كان ممقوتاً لما يتركه من آثارٍ نفسيةٍ على الناس في القطاع، الذين يرون فيه بوابةً للموت، ومعبراً للانتقال إلى الحياة الآخرة، إلا أن هذا المستشفى يقوم بدورٍ عظيمٍ في مساعدة المواطنين والتخفيف عنهم، وإنقاذهم ونجدتهم، وإسعافهم ونقلهم، إذ لا يتأخرون عن النجدة، ولا يمتنعون عن المساعدة، بل تهب سياراتهم المعدودة، ذات الإمكانيات المحدودة، تلبي كل دعوة، وتستجيب لكل نداء، وتصل إلى أكثر المناطق صعوبة، وأشدها خطورة، ليسعفوا مصاباً، أو ينقلوا جريجاً، أو يجمعوا أشلاء شهيد.
كثيرٌ من المسعفين والممرضين وسائقي سيارات الإسعاف، قد أصابهم ما أصاب شعبهم، فطالتهم القذائف، ونالت منهم الصواريخ، فاستشهد العديد منهم أثناء محاولاتهم الإنقاذ، أو خلال عمليات الإسعاف، أو بينما هم في طريق ذهابهم أو عودتهم، إذ لا يفرق العدو بين مصابٍ ومسعفٍ، وبين شهيدٍ وطبيب.
يبقى مستشفى الشفاء سجلاً للشهداء ناصعاً، وصرحاً مقاوماً، وقلعةً صامدة، وثكنةً يجمع فيها مقاتلين ومناضلين شرفاء، أطباء وممرضين وعاملين، يضحون بحياتهم من أجل غيرهم، ويفرطون بأنفسهم ليحيا سواهم، يكرمون الشهداء، ويتفانون في خدمة وإسعاف المرضى والمصابين، رغم قلة الحيلة، والعجز الشديد، والقصف الذي يستهدفهم، والصاروخ الذي يلاحقهم، والعدو الخبيث الذي يمكر بهم، ويتربص بسيارتهم، ولا يهمه أن يقتلهم ومن معهم.
الأربعاء 03:30 الموافق 23/7/2014 ( اليوم السابع عشر للعدوان)
**


CONVERSATION

0 comments: