في الوطن غربة وفي الغربة وطن/ أسعد المكاري

وكأننا في وطن الأرز نظلُّ في الترحال غرباء في التراب والهواء والوجع ، تمضي أعمارنا دون استقرار ودون بال هانىء ، وكأنه كتب على لبنان أن يظلّ غريباً في مجتمعهِ العربي ، يخيّمُ فيهِ الجهل والجشع والتواطوء.
وكأن بثقافتهِ التاريخية وحضارتهِ الممتدّة آلاف السنوات ، يشكّلُ نموذجاً غريباً متمايزاً يجب أن لا يكون، وشعبهُ يجب أن يكون عاري المفاهيم، مسلوب الإرادة، حتى يظلّ يُحكم بغير قناعاتهِ وعقيدتهِ ومدنيتهِ، لتمرّ المخططات والمؤامرات الكونية عبرهُ، ويظلّ الوطن ساحةً مفتوحةً على ترجمةِ المواثيق والخطط الإقليمية . ففي لبنان وبسبب الأحداث المتتالية فقدت الأرض خصوبتها ، فأهلها هاجروا وتهجّروا، وجاءهم بدلاء لهم في التراب والهواء، وهم المهجّرون أيضاً من أوطانهم بسبب الحروب والقضايا المشبوهة والقضايا المحقّة . 
لبنان الذي أصبح بغالبية شعبه في دنيا الإنتشار ولم يبقَ سوى القليل والذي يوازي عدد المهجّرين إليه من الدول المجاورة فلسطين ( ثمانمائة ألف) سوريا ( مليونان ومئتي ألف ) ومن بلدان متعدّدة كمصر والعراق وغيرهم حوالي ستمائة ألف من المتواجدين للعمل أو مضطهدين في بلدانهم أو مرتكبين أفعالاً .
هذا العبء الذي لا يستطيع تحمّلهُ لبنان الرازح تحت ديون كبيرة ووضعه الإقتصادي هش ، فلا الشعب قادر ولا الدولة المنهكة ولا المؤسسات العاجزة، شكّل حافزاً قوياً للمهاجر اللبناني أن يبني وطنهُ الذي يحلمهُ في الغربة . فالمغتربون الذين أصبح الكثير منهم مهاجرين إلى (انقضاء الساعة) ، يحملون لبنان في قلوبهم وعلى شفاههم وبالرغم من قسوة الأنظمة عليهم فيما مضى ، يرفعونه فوق رموشهم هاتفين بالفداء له في المحافل الدولية ومتغنّين بقيمه ، ويحفظون تاريخه أكثر من المقيمين فيه والذين بأفعالهم جهّلوا التاريخ وأخضعوه للشك . 
لقد أثبتت الأيام وعلى مر سنوات المحن منذ ال 75 إلى اليوم ، أن المسبب الفعلي للحروب المتتالية واستباحة الأرض والقيم هم زعماؤه الذين تشاركوا في اقتسامه وتقاسمه مزارع طائفية وتحت ستار
(العيش المشترك ) ومنذ الإستقلال ، هذه الكذبة الكبيرة التي صدّقوها بعد أن ابتدعوها ليمرّروا عبر أقبيتهم السوداء الهروب من الدولة المدنية ، دولة المؤسسات التي تحفظ الأعراق والأديان وتعمّم العيش الإنساني والحق في المواطنية والإنتماء ، إلى دولة المحاصصة والمحاسيب ودوائر الفساد والرشوات . 
ولأننا شعب يمتلك الحضارة ، ومبررات وجوده هو تاريخه المرتكز على مفاهيم ثقافية معرفية ، نشرت الحرف في العالم وصدّرت الأدمغة وأرست قواعد الديموقراطية وناصرت الحريات ، فقد صار لنا في الغربة وطن حيث اللبناني يحقق طموحه ويصل بكفائته ، وعنده مناعة ضمن الأنظمة التي تحترم حقوق الإنسان وتشرّع للحق في سلطة القانون . ففي هذا الوطن تستنشق رائحة الأرز والأرض والكرامة. 
ويبقى المواطن اللبناني في غربة متواصلة في وطنه يفقد يوماً بعد يوم مناعته وثقافته، ويتخبّط بين مبادئه والمفاهيم الدخيلة التي تنمّ عن إيديولوجيات معيّنة، ينتظر قيام الدولة العادلة والدولة لن تقوم !!!

CONVERSATION

0 comments: