مستر بالدوين.. والوهَّابية 1/ محمود شباط

(الحلقة الأولى)
قبيل انتهاء دوام يوم الثلاثاء كان المستر جون بالدوين في مكتبه في قسم إدارة المشاريع لشركة "بيتروفاينكو"  في الخبر، يتابع على جواله مقطع حرق "داعش" للطيار الأردني. لم يستطع إكمال مشاهدة المقطع فعاد إلى استئناف قراءة كتاب "الإسلام السياسي في شبه الجزيرة العربية" لمؤلفه الدكتور شايع الطويعمي. لفت انتباه الكهل البريطاني في مقدمة الكتاب وفرة مقابلات المؤلف لشخصيات بريطانية عايشت أحداثاً مهمة تتعلق بالوهابية في شبه الجزيرة، كالسير جون باغوت غلوب (غلوب باشا) ،على سبيل المثال لا الحصر،  وقيام المؤلف بزيارات متعددة لمكتب السجلات البريطانية العامة، (Public Record Office )   في تشانسري لاين في لندن. كما لاحظ بالدوين أمانة المؤلف الأدبية لذكره بأنه استعان في مناسبات عدة بمعلومات وردت في كتاب "محاربو ابن سعود الإسلاميين" نشر بالإنكليزية في السعودية تحت عنوان (Ibn Sa’ud’s Warriors Of Islam ) لمؤلفه اللبناني الأميركي جون حبيب الذي عرض مسودة كتابه على الملك فيصل وسمح له الملك بإجازته ضمناً. 
رفع بالدوين حاجبيه استغراباً حين قرأ في كتاب الدكتور الطويعمي عن الحقبة الوهابية الأولى أموراً جديدة عليه رغم اهتمامه بهذا النوع من التاريخ. و فغر فاه حين وصل إلى المقطع التالي : "يذكر الكابتن غارلاند في تقريره أن أتباع مذهب الإخوان يشبهون كثيراً أتباع الوهابية، أنما بتشدد أكثر لدى الأولين، ولطالما كانت وسائل الإخوان في إجبار البدو في نجد على الإنتماء لحركتهم وحشية وهمجية، من يرفض يكون مصيره الموت، وفي غزواتهم لا يأخذون أسرى بل يعمدون إلى قطع حناجر من يسقطون في أيديهم" .
ثنى الكهل البريطاني الضخم زاوية الصفحة ودس اصبعه في الكتاب ثم اتجه حادلاً بسرعة صوب المكتب الذي يجاوره، حيث المهندس عبد الرحمن الشويخان، مدير المشروع الذي تقوم شركة بيتروفاينكو بتنفيذه لصالح شركة أرامكو في حقل الشيبة النفطي في صحراء الربع الخالي.
- سأل بالدوين : أمعقول هذا؟ أنظر هنا يا عبدول ! هل سمعت بمثله عن الإخوان ؟؟ كنت أعتقد بأن "داعش" و "النصرة" هما من بدآ هذا النوع من القتل. هل تعرف شيئاً عن ذلك يا عبدول ؟ ليت كان بإمكاننا مقابلة المؤلف. لابد أن لديه تفاصيل أكثر. المؤلفون لا يذكرون كل ما يعلمون في كتبهم .
- رد الشاب الثلاثيني النحيف الأسمر :سمعت بأمور مشابهة لست متأكداً منها، إن كان الأمر يهمك لدي صديق من قبيلة الطويعمي يمكنه أن يرتب لنا لقاء مع قريبه المؤلف. ولكن دعنا الآن ننهي عملنا أولاً.
- نقل الدكتور الطويعمي عن مصادر بريطانية بأن عبد العزيز بن سعود هو من أحيا حركة الوهابيين الثانية، سوف أسأل المؤلف عن تفاصيل أكثر تتعلق بدور عبد العزيز بن سعود وعلاقته بالوهابيين". قال بالدوين ذلك ثم جلس مع عبد الرحمن ووضعا خطة برنامج عمل الرحلة التي سيقومان بها صباح الغد التالي إلى الربع الخالي كي يجتمعا باستشاري المشروع ومندوب أرامكو، ولكي يتفقدا ميدانياً سير العمل. وبعد اتصال عبد الرحمن بصديقه الطويعمي عرف منه بأن الدكتور شايع يمضي عطلة نهاية الأسبوع في مزرعته القريبة من واحة "يبرين" في شمال الربع الخالي، واستدل منه على موقعها، وبأنه حدَّد لهما موعداً للقائه ظهر غد، وأخذ علماً بموضوع الزيارة. 
- رد بالدوين :ظهر غد؟؟ مستحيل ! قد تأخذ جلستنا معه وقتاً أكثر مما نتوقع، ولن يكون بإمكاننا السير ليلاً، ذلك ممنوع وغير آمن كما تعلم، اتصل بصديقك مرة أخرى وقل له أن يؤجل موعدنا مع الدكتور الطويعمي إلى ما بعد غد.
- اسمع يا جون، ما عرفته من صديقي بأن قريبه الدكتور شايع لديه تقديم واجب عزاء بعد غد، ويخصص نهار الجمعة للصلاة والراحة . 
- فرك بالدوين يديه بيأس واستسلام وقال : فلنؤجل موعدنا مع استشاري المشروع ومندوب أرامكو إلى ما بعد غد إذاً.
***
بحدود التاسعة صباحاً كان عبد الرحمن وبالدوين يتناولان القهوة في إحدى استراحات الطريق السريع على محطة وقود بعد أن عبرا مدينة الهفوف باتجاه الجنوب صوب واحة "يبرين"، قال بالدوين : ألا تستغرب مثلي هذا الجمود يا عبدول ؟
- جمود ماذا ؟
- أليس من الغريب والمؤسف في آن أن يكمل تكفيريُّو القرن الواحد والعشرين ما بدأه أسلافهم الإخوانيين في الحركة الوهابية في القرن الثامن عشر؟ عبدول ! أي إصلاحٍ هذا ؟ قل لي ، وبصراحة ، هل ستغضب مني إن سألتك لماذا تؤتي حركات الإصلاح عند المسيحيين ثمارها وتؤتي بعكسها عند المسلمين ؟ هل قرأت عن مارتن لوثر ؟ أدرك تماماً حساسية المسألة ، ولكن لا بأس من مناقشتها طالما أننا أصدقاء ، ويعرف أحدنا الآخر منذ سنين ، وبيننا "خبز وملح" كما تقولون . ولا أحد يسمعنا. هل سمعت بمارتن لوثر ؟
- كلا
- جون ويكليفيه؟ 
- كلا
- جون هاس ؟ 
- كلا
- ديزيديريوس إيراسموس ؟ ولا بأي من هؤلاء الإصلاحيين البروتستانتيين؟ 
- قرأت عن بعضهم، ليس كلهم، ولكني لم أقرأ لهم . لماذا لم تتزوج ، أو حتى تفكر بالزواج لغاية الآن يا جون ؟
- أوه!! لا أعلم ، وعلى أية حال لماذا عليَّ أن أتزوج ؟ لدي شريكتي وأنا راضٍ عن حياتي وكذلك هي .
- وهل ذلك يتناسب مع ما دعا إليه مارتن لوثر  والآخرين الذين ذكرتهم ؟
- ما دخلهم في حياتي الخاصة ؟ أليس كل منا مسؤول عما يفعله ؟ خيراً كان أم شراً ، وكل منا يعلم بأن مصيره إما الجنة وإما النار ، روحي ملكي وجسدي ملكي وعقلي ملكي وأنا حر بها كلها.
- جون ! لا تقل ذلك لغيري يا عزيزي جون ، حتى للدكتور ! على الأخص إن كان هناك حضور غيرنا. 
- مهلاً يا عبدول ! إن لم يقم الطبيب بمصارحة مريضه بما يشكو منه يستحيل الوصول إلى شفاء المريض، بالضبط كما يستحيل الوصول إلى نتيجة في ظل تحريم مناقشة المحرمات عندكم، أنت من قلت لي بأن سوء الوضع يعود إلى جمود الإجتهاد والتنوع والإختلاف وتقبل الآخر؟ أطلعتني على الكثير من الآيات والسور بالإنكليزية وأعجبت بسماحة مضمونها حقاً، سيما تلك التي تتناول الجدال "بالطريقة التي هي أحسن". إنها رائعة!  هلا تلوتها لي من فضلك ؟.  
تلا عبد الرحمن سورة النحل بالعربية: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمُوعِظَةِ الْحَسّنَةِ وَجَادِلْهُمْ بالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينْ) ثم ترجمها لجون الذي قال : عظيم ! رائع ! تجسد حرية الرأي والمعتقد بأفضل صورة، ثم طلب من زميله أن يتلو له السورة التي تتحدث عن أولئك الذين يتنطحون للإصلاح فيقعون في وحل التخلف والتطرف والتعصب فتلا عبد الرحمن سورة الكهف بالعربية أيضاً (الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ثم ترجمها لصديقه وأردف قائلاً :
- لا أدري إن كان الدكتور الطويعمي تطرق إلى أسباب شراسة وبربرية المتشددين وضلال أفكارهم ؟ وأنا نفسي لست متأكداً من السبب ، اسمع يا جون، أحياناً ، وفي أوقات سوداء أعتقد بأني أعرف لماذا نحن على ما نحن عليه ، ماذا تتوقع منا، كعرب مسلمين تحديداً، ونحن الذين نمر بعصر الإنحطاط منذ العام 1258، حَكَمَنا المماليك بعد ذلك قرنان ونصف من الزمن، ثم العثمانيين حوالي أربعة قرون، ثم عبثتم أنتم الإنكليز بمصيرنا في لعبة مصالحكم الدولية والتوازنات الداخلية بين ابن سعود والهاشميين وآل الرشيد، كل ذلك أنتج ثماراً مرة من القهر والظلم والفقر والجهل والأمية، ليس فقط الأمية الثقافية ، بل السياسية والدينية أيضاً. فراغ وخواء بيئتنا ملأها سوانا بما يناسب مصالحه.
ثم خفَّف عبد الرحمن سيره لتفادي عدَّة جمال سائبة تعبر الطريق على مهلها غير عابئة بخطر صدمها قائلاً لبالدوين:  
- أوشكنا أن نصل، أترى تلك اللوحة الإرشادية المكتوب عليها "طريق صحراوي" ؟
- "هـههه !! يبدو لي بأنك ضعت وضيعتني يا فتى. عند كل لوحة تراها تقول لي وصلنا !!" ثم أكمل ترطينه لأغنية كان يتسلى بها.
في تلك الظهيرة القائظة كانت السيارات العابرة في الاتجاهين قليلة ، محيط شاسع من الرمال يحيط بسيارة عبد الرحمن وبالدوين . عَـبْـرَ سراب الصحراء الموشح بغلالة شفافة حمراء جميلة كانت تلوح لهما في الأفق كثبان رملية، قال بالدوين لعبد الرحمن : يذكر تقرير استكشافي لأرامكو، على ما أعتقد، بأن ارتفاع بعض هذه الكثبان يصل إلى ثلاثمائة متر وهي تتحرك باستمرار، يا إلهي !! أفضل أن أدْفَنَ تحت تربة عادية. رباه! هل تلاحظ ذلك اللون الأحمر القاتم الذي يغطي قممها ؟ لا ريب أنه بتأثير الحرارة التي تصل صيفاً إلى 80 درجة مئوية.
- دعك من الكثبان والدفن الآن يا جون ، أؤكد لك بأننا وصلنا .
- أوه! رحمتك يا رب !! مرةً أخرى ؟ كيف عرفت ؟ مررنا بعدد لا أستطيع أن أتذكره من تلك اللوحات الإرشادية.
- هذه مختلفة يا جون، بقربها خزان ماء أحمر و حظيرة جمال، هذا هو المفترق. أجل ! إنه هو .
ثم انعطف عبد الرحمن بالسيارة نحو اليمين  باتجاه المزرعة. سارا في الطريق المسفلت والمغطى بطبقة رقيقة من الرمال مسافة قصيرة، تجاوزا قافلة جمال تسير صعوداً على كثيب رمل قليل الإرتفاع، بدت لهما من بعيد دائرة خضراء في بحر الرمال كسوار زمرُّدي أخضر على صينية ذهبية. ومع اقترابهما أكثر باتا يشاهدان أشجار نخيل تحيط بثلاثة مبانٍ ذات دور واحد، مرَّا بحفَّارة بئر ارتوازي ثم بحظيرة غنم وأخرى للماعز، لاقتهما عدة كلاب شرسة شبه متوحشة، منها ما يدوِّمُ  بهياجٍ حول السيارة ويطلق نباحاً صاخباً ومنها ما يركض أمامهما أو خلفهما وعلى جانبي السيارة. ولم ينهِ كابوس الكلاب ألا صبي، بالكاد في العاشرة من عمره، أطلق صوت صفير غريب فتراجعت الكلاب عن سيارة الزائرين ثم ركض الصبي خلف الكلاب يهـشُّ عليها بقضيب و"يوبِّخها" ويطاردها. 
إبنا الدكتور، ثـنيّان ومشعل استقبلا الضيفين، ثنيان ينتعل حذاءً رياضياً أبيض و يرتدي بنطال جينز  أزرق و "تي شيرت" عليها شعار "أحب الحياة" ، بينما شقيقه الأكبر مشعل ينتعل الخف البدوي التقليدي و يرتدي ثوباً شرعياً ، طويل اللحية محفوف الشاربين. لاحظ كل من عبد الرحمن وبالدوين بأن مشعل يحدج "الإنكليزي الكافر" بنظرات مقت واحتقار.
كان ثنيان يهتم بالضيفين ريثما يحضر والده فدعاهما لتناول القهوة تحت مظلة كبيرة نصبت بإتقان على أرض تُرِكَت فيها الأعشابُ والنباتات البرية تنمو على طبيعتها في محيط بركة السباحة ، سأل بالدوين ثنيان عن نوع نبتة لطيفة يداعبها هواء المراوح،  عَـرَّفَـهُ ثنيان عنها بأنّها خزامى، ثم اصطحب ضيفيهما في جولة قصيرة في الجوار القريب وعرَّفهما على أنواع أخرى من النبات في المحيط كالخزامى والعرفج والشيح والحوذان والحمَّيض التي بدت بأنها تضفي نوعاً من الوشاح السندسي على محيط المزرعة. ثم قال ثنيان لبالدوين بإنكليزية لندنية: 
- "عرفتُ من أبي بأنَّـك مهتم بتاريخنا ، صحيح؟ ". 
- بجانب منه، أود استفسار والدك عن بعض ما أورده في كتابه الأخير. 
في تلك الأثناء سمعوا صوت أحد الخدم ينادي عليهم ليعلمهم بأن "الشيخ" بانتظار بالدوين وعبد الرحمن في مكتبه.
***
ملاحظة : مقابلة الدكتور الطويعمي في الحلقة القادمة
الخبر في07/02/2015

CONVERSATION

0 comments: