فلسطينيو أوروبا.. من المحنة إلى المنحة/ علي هويدي

لا يكاد يختلف إثنان عما كابده وعاناه فلسطينيو أوروبا قبل أن يستقر بهم المقام في القارة العجوز منذ عقود من الزمن، فمع كل مرحلة فاصلة في تاريخ القضية الفلسطينية كانت تزداد الأعداد تباعاً، البعض ممن جاءالقارة للتعليم والآخر للتجارة والعمل.. لكن الغالبية العظمى من الفلسطينيين جاؤوا نتيجة نكسات وأوضاع إقتصادية وأمنية متردية، وتحديداً منذ نكبة العام 48 وبعدها نكسة العام 67 وتلاها محطات كثيرة، من الإعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، إلى التضييق على فلسطينيي الداخل المحتل عام 48، إلى معارك أيلول الأسود في الأردن في مطلع سبعينيات القرن الماضي، إلى الحرب الأهلية في لبنان، إلى الغزو الإسرائيلي إلى لبنان في العام 1982، وبعدها حرب المخيمات ثم حرب الخليج الثانية وإحتلال التحالف الغربي للعراق، مروراً بالأزمة في سوريا، وما نتج عنها ولا يزال من حالات هجرة إلى الدول الأوروبية...

أدرك فلسطينيو أوروبا مخطط تذويبهم في مجتمعات الدول الأوروبية المضيفة كمقدمة لطمس الهوية الفلسطينية، والسعي كي ينسى الإنسان الذي يحصل على الجنسية الأوروبية الإرتباط بمسقط رأسه ورأس اجداده في فلسطين، والإنغماس بالتفكير في تحصيل لقمة العيش على حساب البعد السياسي لقضية اللاجئين المتمثل بحق العودة. هذه المأساة وتلك المعاناة لم تكن إلا لتساهم في إعادة رسم المسار الإستراتيجي لفلسطينيي أوروبا خاصة بعد إنخراط القيادة السياسية الفلسطينية في مسار التسوية إبان مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991 وبعد ذلك توقيع إتفاق أوسلو في أيلول من العام 1993 وإعتراف م. ت. ف. بدولة الإحتلال الإسرائيلي على 78% من أرض فلسطين الإنتدابية، وليدرك فلسطينيو أوروبا ومعهم مجاميع اللاجئين في المخيمات والتجمعات، من أن هناك مخطط لمحو قضيتهم كلاجئين وحقهم في العودة عن الخارطة السياسية..

اتخذ الحراك الشعبي الرافض للمتغير في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أشكالاً مختلفة من المقاومة الثقافية والأدبية والفنية والتربوية والإجتماعية والوطنية والسياسية في رفع مستوى الوعي تجاه المخاطر القادمة، وليتطور من العمل الفردي إلى العمل الجماعي المنهجي المنظم، ليبدأ مع الأسرة وأماكن العمل والبيئة المحيطة، وإنشاء المؤسسات المتخصصة، ولينمو الحراك ليأخذ شكل التاثير الفاعل في صانع القرار الأوروبي، وليتطور أكثر فأكثر ليصبح البعض من أبناء الجيل الجديد في مواقع رسمية في البلديات والمجالس النيابية والوزراء وغيرها من المناصب التي يمكن من خلالها التأثير لصالح القضية الفلسطينية، لتفتح أبواب دول الإتحاد الأوروبي سواءً بشكل إفرادي أو جماعي لإستقبالهم والإستماع لهم ولمطالبهم، ولينعكس التأثير على العديد من الوزراء والسفراء والبرلمانيين والأكاديميين ورؤساء قدامى لزيارة أماكن تواجد اللاجئين في المخيمات والإطلاع على أوضاعهم المأساوية والعودة من جديد إلى دولهم ورفع الصوت للمطالبة بحقوقهم، ولتبادر شخصيات أوروبية بإنشاء مؤسسات متضامنة ومتعاطفة مع الحق الفلسطيني...

في العام 2003 أدرك فلسطينيو أوروبا أهمية الحاجة للتقعيد والتأصيل للحراك الفلسطيني في القارة والدعوة لعمل شعبي منهجي جامع يلتف حوله في البعد الوطني ليس فقط فلسطينيي أوروبا، بل والفلسطينيين في أماكن اللجوء والشتات والمنافي، لينطلق مؤتمر فلسطينيي أوروبا الأول من العاصمة البريطانية لندن، وليس من المصادفة أن يكون الإنطلاق من دولة وعد بلفور المشؤوم والإنتداب الذي سلم فلسطين للعصابات الصهيونية.. ولينمو ويتطور ويستمر "المؤتمر" ويتوسع سنوياً ليشارك فيه الآلاف من فلسطينيي القارة، ولتنبثق عنه خلال ثلاث عشرة سنة العديد من المؤسسات الأهلية الفلسطينية الواعدة والمتخصصة لتحتضن العائلة الفلسطينية ولتحافظ على الهوية الثقافية والإنتماء لفلسطين..

بطبيعة الحال لا يخلو أي تدفق بشري بهذا الحجم خلال هذه الفترة من بعض الخسارات والإنتكاسات، لها أثرها السلبي على العائلة وحتى على الهوية الفلسطينية.. لكن في المحصلة ساهم وعي وفهم فلسطينيي أوروبا لحجم المخاطر المحدقة بالمشروع الوطني، وممارسة الطرق العلمية والمنهجية لتحصيل الحقوق وحمايتها والدفاع عنها، واستحضار مكامن القوة للوجود الفلسطيني الجمعي في القارة، كان كفيلاً بتحويل المحنة إلى منحة مزعجة ومقلقة لأصحاب مشاريع التسوية..    

*المنسق الإقليمي لمركز العودة الفلسطيني / لندن – المنطقة العربية
كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني

CONVERSATION

0 comments: