موقف رسمي لا شخصي للرئيس الفلسطيني/ نقولا ناصر


(لم يكن ما قاله عباس للقناة الثانية الاسرائيلية زلة لسان أو هفوة، بل مجرد تعبير "شخصي" عن موقف رسمي يتحاشى "الدخول في التفاصيل" علنا ل"رؤية" قيادته لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين)


في الذكرى السنوية الخامسة والتسعين لصدور وعد بلفور البريطاني في الثاني من تشرين الثاني / نوفمبر الجاري أثار الرئيس محمود عباس عاصفة من المعارضة الوطنية والشعبية لتصريحه بأن عودته إلى مدينة صفد الفلسطينية المحتلة عام 1948 ليست "حقا" له، لأن "الضفة الغربية وغزة هي فلسطين وكل ما عداهما هو إسرائيل"، ثم سارع "مستهجنا" الانتقادات الواسعة لتصريحه إلى الدفاع عن نفسه في مواجهة العاصفة التي فجرها والتي لم تهدأ بعد بحجة أنه كان يعبر عن "موقف شخصي" لا يعني التنازل عن حق العودة لأنه "لا يمكن لأحد أن يتنازل عن حق العودة".
ومن الواضح أن عباس بتصريحه "الشخصي" قد أضاف إلى عامل الانقسام الوطني الراهن عاملا جديدا يعزز الحجة الأمريكية – الاسرائيلية التي تتهمه بضعف تمثيله لشعبه كذريعة لمعارضة توجهه إلى الأمم المتحدة لانتزاع اعتراف منها برفع مستوى تمثيل منظمة التحرير الى دولة غير عضو في المنظمة الأممية.
وإذا كان يمكن الطعن في معارضة حركتي حماس والجهاد الاسلامي لموقف عباس "الشخصي" من باب كونهما تمثلان القطب الآخر في الانقسام الفلسطيني، فإن المعارضة لموقفه من قوى أساسية في منظمة التحرير الفلسطينية لا يترك مجالا للشك في حقيقة أن تصريحه قد أضعف صفته التمثيلية. وعلى سبيل المثال، جاء في بيان صادر عن المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن "ما صدر عن الرئيس عباس في لقائه مع القناة الثانية الاسرائيلية لا يؤخذ على أساس شخصي وإنما استنادا للصفة السياسية التي يمثلها والمسؤولية التي يفترض أن يتحلى  بها قدورة للأجيال الشابة"، وهو ما يتفق مع قول نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق إنه "لا يوجد هناك موقف شخصي لمن هو في موقع الرئاسة".
ومثال آخر قول د. غسان الخطيب الذي كان الى ما قبل فترة وجيزة ناطقا رسميا للسلطة الفلسطينية التي يقودها عباس إن تصريحه كان "استفزازيا" و"ايماءة غير مرحب بها" و"خطأ" في كونه "تنازل عن مبدأ من دون مقابل"، ليخلص شخصية مستقلة مقدسية معروفة مثل مهدي عبد الهادي الى القول في تعليقه: "من الواضح أنه ليس البطل، وليس المحرر، وليس القائد"، وليخلص رئيس تحرير القدس العربي اللندنية عبد الباري عطوان إلى القول إن عباس قدم "تنازلات مجانية" مضيفا: "إذا كان الرئيس عباس لا يريد العودة الى صفد ... فهذا قراره الشخصي ولكنه في هذه الحالة لا يجب يتحدث، أو يدعي تمثيل ستة ملايين لاجئ فلسطيني".     
ولأن عباس يدرك جيدا "قداسة" حق العودة لدى شعبه ولا يمكن اتهامه بالسذاجة حد تجاهل هذه الحقيقة الفلسطينية، فإن التفسير الوحيد لتوقيت إطلاق تصريحه هو أنه كان معنيا بتعزيز موقفه التفاوضي ومؤهلاته "السلمية" أكثر مما كان معنيا بمخاطبة شعبه في شأن ثابت من الثوابت الوطنية لهذا الشعب.
لكن رد فعل ائتلاف بنيامين نتنياهو الحاكم في دولة الاحتلال بزعامة الليكود يسوغ انتقاد عباس بأنه قدم تنازلا مجانيا عندما أعلن في اليوم التالي عطاءات لبناء 1213 وحدة استيطانية جديدة في القدس المحتلة عام 1967 لتأكيد "حق عودة" اليهود الى الضفة الغربية بعد أن قال نتنياهو إن "أقوال عباس لا تتفق مع أفعاله" وقال أركان ائتلافه إنه "يتحدث بلسانين" و"ليس شريكا" للتفاوض معه وإنه "يضلل الجمهور الاسرائيلي".
غير أن شريك عباس في التوقيع على اتفاق "أوسلو" الأول بواشنطن عام 1993 ورئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس لم يخيب ظن عباس فسارع الى وصف تصريحه ب"الشجاع" ووصفه شخصيا بأنه "شريك حقيقي للسلام"، وهاتفته الزعيمة المعارضة تسيبي ليفني لتعرب له عن أهمية ما قاله "علنا"، وقال وزير الحرب الحالي ايهود باراك إنه "لا يمكننا القول إنه ليس لدينا شريك لصنع السلام، فقد أعرب أبو مازن عن الاستعداد لاسقاط حق العودة في المحادثات المغلقة أيضا"، وقال رئيس الوزراء السابق ايهود أولمرت إن مقابلة عباس "تثبت للجمهور الاسرائيلي وجود شخص يمكن التكلم معه"، وقال المحلل السياسي جرشون باسكين إن عباس "ربما يكون الفلسطيني الأول الذي يقف ليكون صادقا مع شعبه" فتصريحه "اعتراف بأن الفلسطينيين لن يحصلوا على حق العودة في المفاوضات".
وموقف عباس "الشخصي" كما وصفه لم يكن جديدا ولا شخصيا، فما قال إنه حقه في "رؤية" صفد تحدث عنه في مقابلة مع "تايم" الأمريكية العام الماضي كحق عام في "الرؤية" بقوله: "الكل يتطلع إلى العودة، لرؤية بيته، لرؤية أرضه، لرؤية من بقي من عائلته إن بقي أي منهم"، والواقعية التي عبر عنها بالفصل بين حقه في "الرؤية" وبين حقه في "العيش" في صفد فسرها في مقابلته مع "تايم" بقوله: "حسب مبادرة السلام العربية، وجدنا حلا بأن هذه القضية ينبغي التعامل معها بهذه الطريقة: بأننا سوف نجد حلا عادلا ومتفقا عليه مع الاسرائيليين، طبقا لقرار الأمم المتحدة 194، ما يعني أن بعض الناس سوف يعودون – من دون التأثير في نسيج الاسرائيليين طبعا. فإذا قلنا لهم إننا سوف نرسل 5 ملايين فلسطيني، فإن كل شيء سوف يدمر في اسرائيل. ونحن لا نريد تدمير اسرائيل طبعا. لكننا نريد إعطاء الحق لبعض الأعداد في العودة". وفي المقابلة ذاتها مع مراسل المجلة الأمريكية كارل فيك، قادته واقعيته الى الاستنتاج بأنه عندما يحين الوقت لمعرفة أعداد اللاجئين الفلسطينيين الراغبين في العودة "حسب مبادرة السلام العربية" الى القول: "لا أعرف ما إذا 5 ملايين سوف يطلبون (العودة) – ربما سوف يطلب بعضهم التعويض مكتفيا بذلك"، مضيفا أنه سوف يذكر من يطلب العودة منهم بقوله: "حسنا، أنت ذاهب الى اسرائيل، لتكون عضوا في المجتمع الاسرائيلي، لرفع العلم الاسرائيلي، لحمل بطاقة هوية اسرائيل، للحصول على جواز سفر اسرائيلي ... نحن لا نريد الدخول في التفاصيل، لكن إذا سأل أحدهم، فانني سوف أجيب: إذا أردت الذهاب الى اسرائيل، طبعا، عليك أن تكون مواطنا اسرائيليا، وعليم أن تحيي نشيدهم الوطني ...".
لذلك لم يكن ما قاله عباس للقناة الثانية الاسرائيلية زلة لسان أو هفوة، بل مجرد تعبير "شخصي" عن موقف رسمي يتحاشى "الدخول في التفاصيل" علنا ل"رؤية" قيادته لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين. فعباس لم يأت ب"جديد" يسوغ كل الجدل الساخن المستمر حول ما إذا كان تصريحه يمثل موقفا "شخصيا" أم موقفا رسميا له.
فالحقيقة الساطعة كالشمس هي أن موقفه الشخصي يعكس تماما الموقف الرسمي لرئاسته والموقف الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها قبل رئاسته وهو الموقف الذي حول "حق العودة" إلى قضية مميعة مؤجلة ومتنازع عليها وقابلة للتفاوض على حل "متفق عليه" لها مع دولة الاحتلال الاسرائيلي منذ تبنت المنظمة "حل الدولتين" ك"مشروع وطني" لها، ومنذ أجمعت جامعة الدول العربية على "مبادرة السلام العربية" التي تتبنى ذات الموقف، ومنذ انطلقت "عملية السلام" على هذه الأسس.
إن كل الوثائق والبيانات الرسمية الصادرة بعد ذلك من الأمم المتحدة ولجنة الوسطاء الرباعية الدولية (وخريطة طريقها لسنة 2002) وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون (سابقا المؤتمر) الاسلامي ومنظمة التحرير، وكل إشارة إلى قرار الجمعية العامة غير الملزم رقم 194 لسنة 1948 في هذه الوثائق والبيانات، قد صدرت في سياق قرار مجلس الأمن الدولي الملزم رقم 242 لسنة 1967 الذي اعتمد أساسا ل"عملية السلام" و"مبادرة السلام العربية" و"المشروع الوطني" لمنظمة التحرير القائم على أساس "حل الدولتين"، والقرار 242 معني بتسوية سياسية لآثار العدوان الاسرائيلي على الدول العربية في سنة 1967 وب"تسوية سياسية" لمشكلة "اللاجئين" الناجمة عن ذاك العدوان من دون أي تحديد لصفتهم الفلسطينية.
ولذلك لم يكن مستغربا أن يفشل مفاوض منظمة التحرير بعد حوالي عشرين عاما من المفاوضات مع دولة الاحتلال في انتزاع ولو اعتراف ضمني منها بالمسؤولية عن قضية اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة عام 1948، ولا مستغربا أن يكون أقصى ما تمخضت عنه المفاوضات الرسمية بين الطرفين هو مجرد "بحث" عودة رمزية لمائة ألف لاجئ من دون التوصل حتى الى اتفاق ملزم على عودة رمزية كهذه، ولا مستغربا أيضا أن تكون الحلول المتفق عليها لقضية اللاجئين في وثائق صادرة عن مفاوضات غير رسمية، مثل اتفاق عباس – بيلين لسنة 1995 ووثيقة جنيف بين أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه وبين يوسي بيلين ايضا لسنة 2003، محصورة في نطاق الدويلة الفلسطينية المأمولة، في التزام طوعي مجاني من جانب فلسطيني واحد من رجلين ما زالا ممسكين بمقود منظمة التحرير حتى الآن.
* كاتب عربي من فلسطين               
* nassernicola@ymail.com

CONVERSATION

0 comments: