أنسي الحاج شاعر الليل يترجل ويعانق الموت/ شاكر فريد حسن

رحل عن دنيانا اليوم الشاعر الرشيق والكاتب العظيم أنسي الحاج  ، صاحب الباع الطويل في النهضة الشعرية والأدبية اللبنانية والعربية المعاصرة ، بعد صراع قاس ومرير مع المرض .
 وأنسي شاعر رومانطيقي حاد ، عنيف ، رقيق ، نقي ، وغامض ، ظلت جذوة الثورة الملتهبة والمتجددة في قصائده النثرية، كأنه في العشرينات من عمره . عاش  أحياته في العقود الأخيرة بعزلة تامة ..عزلة الأنقياء ـ كما يسميها عبده وازن ـ فكان ينام في النهار بعيداً عن الصخب وضوضاء الشوارع، ويسهر في الليل إلى أن يطلع الفجر وتزقزق العصافير ، يقرأ ويكتب ما يعانيه من آلام ومشاعر وأفكار وأحلام ويقدم نمطاً شعرياً غير مسبوق، رافضاً التسويق الإعلامي والمساومة في سوق النخاسة الشعرية والمشاركة في الندوات الشعرية والأدبية والأمسيات الثقافية.

أنسي الحاج من مؤسسي الحداثة الشعرية مع بداية ستينيات القرن الماضي ، شارك مع كوكبة مضيئة من الشعراء والمبدعين العرب، وفي طليعتهم :"علي احمد سعيد (ا،دونيس) ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا "وغيرهم، في احداث ثورة في اللغة الشعرية باختيار قصيدة النثر كتعبير عن الحداثة الشعرية بعد أن كان نظام التفعيلة الذي فرض نفسه على أيدي بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، وشكل ثورة الحداثة الشعرية.

أنسي الحاج وريث المدرسة السوريالية، وظّف جمالياتها في سياق قصيدته وجعل منها أساس معماره الشعري الذي بقي يتجدد ويعلو يوماً بعد يوم منذ ديوانه "لن" ومروراً بـ"الرأس المقطوع" و"ماضي الأيام الاتية"و"ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة" ثم أخذت هذه النبرة تخفت شيئاً فشيئاً في "الرسولة بشعرها الطويل" حتى شهدت انحساراً واضحاً في "الوليمة" التي جاءت بعد انقطاع شعري دام أكثر من عشر سنوات، فنراه في هذا الديوان يميل الى الاختزال واستخدام تعبيرات ذات مسحة رومانطيقية معطوفة على لغة نثرية واضحة وجلية.

أنسي الحاج شاعر بلا خطيئة ، بنقاوة البلور وطهر العذارى، وشاعر الحب بامتياز، جعل المرأة كياناً يختزن البعد الإنساني بأكمله، ويرى فيها مصدراً للوحي ومؤشراً للبقاء،وعلامة الديمومة ،تحتفظ بنبض الكون وشرارته، المثال والنموذج، الميلاد والطهارة، الرغبة والعفة، وتجسيداً للعبث الناتج عن جدلية الموت والحياة.. فيقول: 
كما أنا جذورك أنت حريتي 
وكما أنا الذاكرة 
أنت موقظة الكلمات في كهوف الذاكرة 
وكما أن الصقيع نارك، النار صقيعك
ناديت لاعناً جمالك
وها أنا أغرق فيه
ألوت بي ابتسامتك
كما يلوي البرق في السحاب
الدهر انزاح عني
كل الاعمار لهذه الأنفس
ولا عمر لها 
ميثاق الوهم ميثاقي
طيري بي ولا تلقيني 
نظرتك تفصل بين حياتي وموتي.

أنسي الحاج يتدفق بالوهج العاطفي ويعطي القصيدة ثراءها وخصوبتها، ويحفر في اللغة بأزميل كلماته الغاضبة الثائرة المتمردة، وشماً ونقوشاً من لهب ونار، والشعر في نظره بمثابة المقدس الذي لا يمكن تدنيسه. ومنذ صدور ديوانه الأول"لن" وهو مصلوب على صلبان حبه وكده وأمله وحلمه فوق كتفيه وفوق الرق واليراع متسائلاً في نهاية ديوانه" الوليمة":
تريدون شعراً،
ومتى كان الشاعر يكتب شعراً
تريدونه في سره في تأليفه 
تريدون تلك الظلال، وذلك التجديد 
وتريدون الرموز والاشكال!
والموسيقى والصور!
اذهبوا اخرجوا من هذه الغرفة 
كان شعر، ولم تكن عفوية
وكانت عفوية، ولم يكن شعر
وكان الشعر والعفوية فظل مكان
مكان اللا الامام
جائع
جائع
جائع تسمعون جائع
واصبحت الطعام 
أصبحت طعام الحب.

انسي الحاج شاعر امتلك المكان وأطل على الوجود وكتب قصيدة النثر كتعبير عن نوازع القلب البشري الانساني، وسعى دائماً الى تقطير لغته وتنقيتها كي يغدو أكثر ألقاً وعمقاً وأبعد أثراً، وهو ذلك الصوت النادر الذي انبثق من"لن" ليزيح ركاماً هائلاً من الأصوات الشعرية المستنفذة التي أنست الى السليقة والتلقائية، فأحببنا قصيدته التي يضفي عليها نوعاً من الغرابة والدهشة والحيرة واللذة ، وتتسم بالتدفق العاطفي والإضافات الفنية التي أغنت تجربته الرائدة ،  فله الوداع وسلاماً على روحه . 

CONVERSATION

0 comments: