السياسة الخارجية لأمريكا/ مهندس عزمي إبراهيم

مصر، شأنها شأن شقيقاتها دول الشرق، لا زالت تسبَح، أو بالأصح تغرق في أمِّيَّـةٍ سياسية. ولا تستطيع أن "تفك الخط" في سِفر "علم السياسة الخارجية للدول". فلا مصر ولا أيّ دولة من الدول "الإسلامية" أثبتت أنها تعرف ألِف باء هذا المجال. حيث ما زلنا بالشرق لا ندرك أن علاقات الدول ليست علاقات أخدان ورفاق وعشاق. ولا هي علاقات أشقاء وأبناء عمومة. بل هي علاقات مصالح متبادلة.
عظمت في هذه الأيام مشاعر بغضاء لدى المصريين تجاه أمريكا، وتجاه سياسة أمريكا الخارجية. وذلك لمحاولاتها تثبيت أقدام الأخوان الإسلاميين الإرهابييين عنوة في حكم مصر، والتي أفشلها شعب مصر الواعي وجيشها الأمين. وأقول أنه شعورٌ مستحَقٌ إلى حدٍ ما. ولست أقول ذلك عشوائياً. فهناك أمريكيون وشرقيون مقيمون بأمريكا وفي مقدمتهم أقباط المهجر لم يَكِلّوا عن رفع أصواتهم في الإعلام والميديا وأمام المسئولين، مجالس وهيئات وأفراد، بعدم الرضا على موقف أمريكا في هذا الصدد بالتخصيص.
ولكن... والحق يُقال. أمريكا ترعى مصالحها خلال سياستها الخارجية، مثلها مثل باقي الدول الحرة المستنيرة المتقدمة: استراليا والصين والهند وكندا وروسيا واليابان والبرازيل وفرنسا وانجلترا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وسويسرا وباقي الدول الواعية. كلهم يرسمون خرائط سياساتهم الخارجية على أساس مصالح أوطانهم وشعوبهم. وإذا قَصَّروا في ذلك فقد قَصَّروا في مسئولياتهم، وفشلوا في إدارة أمورهم، وخانوا أوطانهم وشعوبهم.
فالسياسة الخارجية، باختصار، هي من أهم المناهج لدى الدول لتنفيذ وحماية مصالحها. وحيث لا بد من إقرار أن لكل قرار ظروفه وأنه لا يُستبعد احتمال الخطأ في أي قرار، فالثابت أن تلك الدول المستنيرة وشعوبها الواعية، بغالبيات مواطنيها، سواء مسيحية أو يهودية أو هندوسية أو بوذية أو غير ذلك، لا ترسم خرائط سياساتها الخارجية على أساس صداقات عشوائية، أو على أساس مشاركة في دين أو في عرق أو في جوار، كما تفعل دول الشرق الإسلامي.
فدول الشرق الإسلامي، دون دول العالم أجمع، تقيم التزاماتها الخارجية وحتى الداخلية أساساً على مقياسين. أحدهما "عِرق العروبة". تلك العروبة التي لا وجود لها بين ما يسمى بـ "الدول العربية". فمن تلك الدول دولٌ مستقلة، بخلفيات متباينة وحضارات قومية وهويات عريقة خاصة بها. هي دولٌ لا تمُتّ للعروبة إلا بأنها (كانت) مستعمرة بالعرب في عصور مضت، وانزاح عنها كابوس الاستعمار العربي، كأي استعمار أجنبي، منذ قرون.
والمقياس الآخر هو "الديـن" بل مذهبٍ بعينه من الدين، وتصِرّ على زَجّ ذاك الدين وذاك المذهب في مجالات السياسة والتشريع والقضاء والأمن والتعليم والطب وغيرها. وهي مجالات التي لا دخل للدين فيها ولا في علومها وفنونها ومناهجها وأساليب تطبيقها. بل هو "الديـن" دون أدنى شك، ما يفسدها ويخل نظامها ويقف عثرة في طريق مدنية وديموقراطية ورقي دول الشرق.
هاتان القاعدتان "العِرق" و "الدين" هما القيدان اللذان يَحُولان تلك الدول دون السير قِدماً نحو الرقي والتقدم والعدالة الإنسانية (عدالة اللـه) (لا عدالة الدين، أي عدالة القبيلة العنصرية). لأنهما "العِرق والدين" بكل بساطة، وبكل صراحة، رغم مرور 1400 عام على التمسك بهما هما منابع البغضاء والعنصرية، وأسباب التطرف والظلم والإرهاب والفشل والتخلف والتقوقع والانعزال عن المسيرة مع التيارات البشرية المعتدلة الراقية والمتقدمة!!
وهنا أؤكد أني لست ضد التصادق والتآلف والتعاون مع دول الجوار المسماة "عربية". ولكني ضد "التخصيص" أو "التركيز" على تلك الدول المتخلفة لتكون علاقاتنا الخارجية مخصَّصة أو مركزة على أساس العِرق والدين فقط. فمن الأصلح لمصر توسيع رقعة التصادق والتآلف والتفاعل والتعاون مع دول العالم المتحضر كله، وبالنسبة لمصر خاصة مع دول البحر الأبيض المتوسط الأوروبية. فذلك يحافظ على "المودة" الإقليمية مع كل دول الجوار وبالأخص الدول الأكثر تحضراً. مثال لذلك التقارب بين كندا وأمريكا والمكسيك، وأيضاً بين الدول الأوروبية، وكذلك بين دول شرق آسيا. ومن الملاحظ أنه ليس هناك بين دول العالم أجمع مجموعة تسمّي ذاتها دولاً مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوسية أو أنجلو ساكسونية. فالدولة أرضٌ بحدودٍ جغرافية لا تَعقِل ولا تؤمن بدين ولا تصلي ولا تصوم. بل هي دولة تحتضن مواطنيها من كل عقيدة كأمّ حنون تساوِ وتعدل بين بنيها. لو يدرك أهلُ الشرق!!
الحقيقة هي أن شعوب دول الشرق الإسلامي تكمن فيها مشاعر بغضاء تلقائية دفينة، ليست لبعض دول الغرب الأوروبي وأمريكا فقط، بل لكل دول "العالم الحر" أي "العالم المستنير والمتقدم" أي "العالم الغير إسلامي". وذلك يشمل دول أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا ونيوزيلاند والصين واليابان والهند ودول أمريكا الجنوبية ومعظم دول أفريقيا وبالطبع إسرائيل. وليست تلك البغضاء موجهة لحكومات تلك الدول فقط، بل موجهة أيضاً لشعوبها وجنسياتها التي لم تتصدى يوماً للمسلمين ولا لدينهم ولا لبلدانهم بضرر من قريب أو بعيد.
ومن أسوأ وأقبح نوازع البغضاء أن تُوجه لمصري لا يؤمن بالإسلام!!! فـ "المسلم الملاييزي أفضل لمصر وأولى بحكم مصر من المسيحي المصري" مقولة قالها أحد دعاة المسلمين ولم تتصدى له أي جهة دينية أو قضائية، أو مسئول دينياً أو إدارياً أو قضائياً. ولا يجب أن يقول أحد أن من قال هذا القول مجنون أو مريض أو متعصب. وإلا فالكل مجنون ومريض ومتعصب!!
فعلى نفس القاعدة تُغلق الأبواب في وجه القبطي المصري، مهما كانت كفاءته. فلا يُمكن تعينه وزيراً لإحدى الوزارات الحساسة، أو رئيساً لإحدى المناصب القيادية كمحافظ أو عميد لجامعة أو حتى مُعيد أو ضابط (إلا القليل) وغير ذلك كثير. وذلك عن تعصب ديني أعمى وعن تغاضٍ أحمق عما هو صالح لمصر وخير للمصريين بغض النظر عن الدين.
وذلك آت من القول "لا ولاية لغير المسلم على المسلم" بل لقد قالها أحد الدعاة بتعبير أسوأ "لا ولاية لكافر على المسلم". وفسَّرها فضيلته بقوله "فإنَّ مشاركة المسلمين للكفار في وطَنٍ واحد لا تعني بالضرورة تَساوِيَهم في الحقوق والواجبات، وإنَّما تُوجِب إقامة العَدل والقسط على الجميع، والعدل لا يعني المساواة في كلِّ شيء؛ وإنَّما يعني إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ومطالبتَه بأداء ما عليه من واجبات، والمَرجِع في تحديد الحقوق والواجبات هو شرعُ الله، لا غير."
ومع التجاوز عما جاء في الفقرة السابقة من هراء وتناقض في المعنى وتلاعب بالكلمات وانحراف في المنطق في ذات الجملة، بإقرار الشيخ أن مشاركة المسلمين للكفار في وطَنٍ واحد "لا تعني بالضرورة تَساوِيَهم في الحقوق والواجبات، وإنَّما تُوجِب إقامة العَدل والقسط على الجميع." وكذلك "العدل لا يعني المساواة"!! ثم العودة بقوله "وإنَّما يعني إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه"!! كل هذا التناقض والتلاعب بالألفاظ محاولات لتحليل الظلم على المواطنين غير المسلمين على أساس شرع الله!!
من هنا يتضح أن تلك البغضاء الكامنة في قلوب المسلمين، أو غالبية المسلمين، على الدول المستنيرة وشعوبها، وأيضاً على غير المسلمين الشركاء في الوطن الواحد، نابعة أولاً من "الديــن". ومرساة أساسا على الاختلاف في الدين. قبل أن تكون مبنية على سياسات تلك الدول أو سلوكيات شركاء الوطن غير المسلمين!!
أما عن البغضاء الممزوج بنكران الجميل تجاه الغرب. فما زلنا، نحن شعوب دول الشرق الإسلامي، نؤمن بمبدأ (حسنـة وأنا سيـدك). فبينما نحن نعيش على إبداعات الغرب ومخترعاته وانتاجاته ومعوناته، والتلهف على نيل الشهادات العلمية من جامعاته، وعلاج أمراضنا بأدويته وأطبائه وأخصائه ومن مستشفياته، فنحن نحمل له البغضاء على أساس "العِـرق والديـن" فنَسُبّه ليلاً ونهاراً حتى في صلواتنا بمساجدنا وميكروفوناتنا وفضائياتنا مستمتعين بكل ما أبدع وما أنتج، بلا حرج ولا حياء.
تأكيداً وتصديقاً لما كتبت أعلاه، أننا لم نسمع أحداً من هؤلاء "السَّبّابين" يسُبُّ الصومال أو اليمن أو الباكستان أو أفغانستان ونيجيريا وأمثالهم، وليس من تلك الدول من قدم لنا شيئاً إلا الإرهاب والتخريب. وهذا التجاوز بالطبع لأنهم شركاء في ذات الدين!!!
وأيضاً ما زلنا في الشرق نستعمل الغرب وأمريكا وإسرائيل (شـماعة) نعلق عليها أسباب تأخرنا وفشلنا ونتاج سوء تصرفات حكامنا وشعوبنا. متجاهلين معالم التأخر الحقيقية وأسبابها الأساسية التي تملأ تاريخنا من قبل أن يَعرف الغرب طريقه إلينا. ومن قبل أن تتواجد أمريكا وإسرائيل على خريطة العالم. وهذا السلوك، أي إلقاء أسباب أخطائنا وفشلنا على الآخرين، هو إغلاق للعقل والضمير وهروب من مواجهة الواقع، ومدعاة لقفل باب الإصلاح الذاتي، وبالتالي التمادي في التراخي والتخاذل ثم تكرار الفشل والتخلف عن الركب البشري الناهض.
وما لا تستوعبه شعوب دول الشرق الإسلامي هو أنه لا معونة سياسية أو مالية أو حربية تمنح من دولة لدولة لإخرى بلا مقابل. فرغم سرعة تلك الدول الواعية في تقديم معوناتها العينية والمهنية والطبية للدول المحتاجة تحت كوارث طبيعية أو بشرية بغض النظر عن دين أو عِرق أو جوار، فهي لا تقدم معوناتها السياسية والمالية والحربية كصَدَقة أو إحسان لأي دولة بلا مقابل كما تتوقع شعوب الشرق!!
***
هنا نصل إلى أن العيب ليس في سياسة أمريكا أو الغرب، بل العيب فينا!!! ولنتذكر جيداً أن مصر ومعظم دول الشرق في الـ 1400 عاماً الماضية، لم تزدهر حضارة وعلماً وثقافًة ونظافة وأدباً وفناً واقتصاداً وانتاجاً وابداعاً بل لم ترتقِ أخلاقياً ودينياً قدر ما ازدهرت وارتقت إبّان الاستعمار البريطاني والفرنسي.
ولنتذكر أيضاً أن أعظم نظم للتعليم والصناعة والاقتصاد والبنوك والاستثمار والانتاج والري والمواصلات والإنشاءات والخدمات عرفتها مصر الحديثة، أرسيت قواعدها ونظمها وازدهرت تحت الحكم المدني الديموقراطي إبّان الاستعمار الحضاري البريطاني والفرنسي. إنجازات حضارية روائع لم يكن لها وجود من قبل. كما أنها اندثرت أو على الأقل تدهورت بعد "عَربنة" و"أسلمة" و"أخونة" و"أسلفة" مصر بدءاً من نكسة يوليو 1952. أي بعد أن أغلقنا الأبواب والنوافذ عن الغرب وشعوبه. وليس ذلك تمجيداً للإستعمار أو للغرب بل إقرارأ ومقارنة حقة وعادلة بما حصَّلناه تحت نظم الغرب وما خسرناه تحت نظم العروبة والدين.
ولنتذكر أيضاً أن أعظم عصر لمصر في الأربعة عشر قرناً الماضية، هو عصر نهضتها المدنية الديموقراطية في القرن التاسع عشر وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين. وهو عندما لم يكن للدين ذِكرٌ بدستورها، وعندما كان المصريون يتعاملون ويتفاعلون مع دول البحر الأبيض المتوسط إيطاليا واليونان وفرنسا وألمانيا وانجلترا، وذلك رغم الاستعمار الأجنبي.
ختاماً، مرة أخرى، ليس العيب في الغرب إنما العيب فينا، ولا يتهمني أحد أني أقدم تمجيداً للإستعمار أو للغرب، بل إقراراً لفشل الحكم الذي يعلو فيه تسييد الشريعة على سيادة القانون، وذلك بزج الدين في الدستور. فالتطرف في الدين يسيء للدين نفسه ويحقر القانون، ويحتكر الفكر والضمير، ويهدر الأخلاق والإنسانية، ويخل بالنقاء الاجتماعي وينزل بالأمم إلى الحضيض الحضاري. وقد عاصرنا وبلغنا ذروة الفشل والتدهور والانهيار إلى أدني الحضيض تحت الحكم الديني الأخواني الوهابي السلفي.
حقيقة لمسناها. لقد تمزق النسيج الاجتماعي "الوطنية والأخلاق والتعاطف الإنساني" الذي يربط الأمة، أو كاد، لولا شعب مصر الواعي وجيشها الأمين، عندما أدخلنا الدين في الدستور وعندما قصرنا تعاملنا وتفاعلنا على دول الشرق العربية الإسلامية النفطية. ولينكر ذلك من يأخذه الصلف الأجوف كيفما شاء. فلن تنزع البغضاء من قلوبنا وسلوكياتنا إر بنزع أي إشارة للدين من الدستور ما عدا جملة "الدولة تكفل حرية العقائد وممارسة الطقوس لكل المواطنين" وبأن نُطعِم أطفالنا وشبابنا معنى  الحق والعدل. وأن نعلِمهم أن الإنسانية قبل الدين، وأن الوطنية قبل الدين، وأن الأخلاق قبل الصوم والصلاة.
دامت مصر حرة، مَيمونة ومَصونة.
مهندس عزمي إبراهيـم

CONVERSATION

0 comments: