قصيدتي عن الجواهري والذكريات
الحلقة الأولى
بعد تدقيقنا الدقيق , وتحقيقنا الحقيق , بما لا لبس فيه الا التصديق ! إنّ شاعر العرب الأكبر محمد مهدي بن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ عبد علي بن الشيخ محمد حسن المرجع الديني الكبير في عصره (1) , والشهير بـموسوعته الفقهية (جواهرالكلام ) , وإليه ومنها تعود نسبة العائلة الجواهرية الكريمة , أقول ولد شاعرنا العبقري في السادس والعشرين من تموز عام 1899م / 1317 هـ (2) ,في محلة العمارة بالنجف الأشرف , وأوصلت المعلومة إليه عن طريق صهره الأستاذ صباح المندلاوي في أواخر عمره المديد , وعلى ما قال لي أنه أقرّها , لذلك انتشرت من بعد , وكلّ من ذهب الى غير تاريخنا لميلاده المدون - على أغلب الظن - لم يحالفه الصواب , وذهب مذهب جواهرينا في إصراره على التصغير , والكبير كبير ! , ثم ماذا؟!! وانا أتجول في صحن السيدة زينب بريف دمشق الشام غروب يوم الأحد 27 تموز 1997م , فجعت بسماع نبأ وفاته , وكانت فجر ذلك اليوم , بل صدمت ,لا من حيث ما ستقوله لي : إن الموت حق ٌّ , وحكم المنية في البرية جار ِ, وقد بلغ من الكبر عتيا , لا تحرجني عزيزي ,أنا أتفهم هذه الأمور , ولست بغافل عنها وعنك , وإنّما لأن الرجل" مالىء الدنيا , وشاغل الناس " قرنا من الزمان , بضجّه (الضمير للقرن) وضجيجه , وعجّه وعجيجه , وبؤسه ونعيمه , وقضه وقضيصه , أيّ أنه عاش في هذه الحياة ما يقارب ضعف ما قضاه المتنبي ابن كوفته فيها ( 303هـ - 354 هـ / 915 م - 965 م ) ,وأكثر من ذلك عمرا شعريا , ونتاجا أدبيا , ولو أن المقارنه تعوزها الدقة العلمية , والنظرة النقدية - كما تعرفون وأعرف - لكن استعارتي لمقولة ابن رشيق القيرواني في (عمدته ) عن المتنبي في حق الجواهري ليس عبثا , وليس أيضا من السهولة بمكان , أنْ يحلّ محله إنسان , أوشاعر فنان في آخر هذا الزمان ! ,الا ما شاء الله ... نعود الى الصحن , والعود أحمد, أخذت برهة أتأمل أحوال الدنيا واحداث العصر , ومصير الإنسان ,الغافل الولهان , إذ يتربص به الموت ,ويلاحقه القدر, وهو سرحان , لحظات فلسفية عابرة , وما الفلسفة كلـّها الا " تأملا للموت " على حد تعبير آفلاطون , وراود ذهني حينها بيت الجواهري الرائع , وحكمته البالغة في الرصاقي بعد أن استحال الى تراب (3) :
لغز الحياة وحيرة الألبابِ أنْ يستحيل الفكر محض ترابِوربطت البيت بقصيدة المعري الشهيرة الخالدة في رثاء أبي حمزة الفقيه ( غير مجدٍ..),خصوصا البيت التالي , وأنا أسير على أرض مقابر قد دثرت , ثم كسيت :
خفـّفِ الوطء ما أظنُّ أديمَ الأرض ِ الا من هذه الأجسادِ
خففت الوطء , وردّدت مع نفسي :إنا لله وإنا اليه راجعون ,ثم رفعت رأسي الى السماء , كمن لا يريد أن يتجرع هذا المصير المؤلم - في حساباتنا - للإنسان , وعادت بي الذاكرة الى سنة 1971 م , ووقفت مع مكابرة الجواهري , وهو يرثي عبد الناصر :
أكبرت يومكَ أنْ يكونَِ رثاءا الخالدون عرفتهم أحياءا
الله أكبر و أكبر على كل حال , والجواهري نفسه لاريب من هؤلاء الخالدين , وله خصوصية مميزة في وجدان العراقيين , ونفوس المثقفين منهم ,فهو محل فخرهم , وعنوان إصالتهم , وعنفوان فروسيتهم :
أنا العراق ُلساني قلبهُ ودمي فراتهُ وكياني منهُ أشطارُ
وبلا شعورأخرجت ورقة كانت بجيبي , أحتفظ بها للحظات الفكرالخاطفة الهاربه , وسللت القلم الحسام , وهمهمت وحدوت وحسمت الأمر بـ (الكامل ) , وبأبيات ارتجالية ثلاثة :
عمرٌ يمرُّ كومضـــة الأحــــــلام ِ نبضُ الحياةِ خديعة ُ الأيّـــــام ِ
هلْ نرتجي من بعدِ عيش ٍخاطفٍ أنْ نستطيلَ على مدى الأعوام ِ
أبداً نسيرُ على مخــاطر ِ شفرة ٍ حمراءَ تقطرُ من دم الآنــــــام ِ
تم ذهبت الى شقتي في ضواحي مدينة دمشق الزاهرة , وعملت القهوه , وبتُّ ليلتي , ودخنت عدة سكائر ,وواصلت مشوار قصيدتي مستلهما شعر الجواهري , وذكرياتي والأيام , وما في اللاوعي من ( أفلام )! , وأكملتها بعد يومين أو ثلاثة , بعد تجوالي في شوارع الشام الفسيحة , وساحاتها الفارهة , وحدائقها الغناء منفردا , فتمّ لي منها اثنان وثمانون بيتا , ودُعيت للحفل التأبيني الذي أقامه المثقفون العراقيون بدمشق في الثاني من شهر آب ( 1997م) , وكانت القصيدة العمودية الفريدة المشاركة, وشارك فيه كل من الباحث هادي العلوي , والدكتور عبد الحسين شعبان , والكاتب عامر بدر حسون , والشاعر زاهر الجيزاني , وختم الحفل نجل الفقيد الدكتور فلاح الجواهري نيابة عن العائلة الكريمة, وكان عريف الحفل الشاعر جمعة الحلفي , ونشرت عدة صحف عربية وعراقية القصيدة بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته, منها( تشرين ) السورية , و( الوطن ) العراقية الصادرة من دمشق وغيرهما , إليك منها هذه المقاطع , ويقيني لا تفوتك التضمينات والإشارات الى قصائد الجواهري , ورموزه باستعاراتها وكناياتها وصورها :
يا أيّها الشــــــعرُ اليتيمُ أبوة ً طرِّ الجفافُ بمنبع ِ الإلهـام ِ
من بعدِ آياتِ القريض ِوربّها يهوى العمودُ وحسنهُ لحطام ِ
لا عبقرٌ يزهو بدرِّ جــواهر ٍ أوراقهُ سخرتْ من الأقـــلام ِ
عُقمَ الزمانُ فلا يجودُ بمثلهِ ضربُ الوليـدِ بأحمدٍ وهمام ِ
عذراً وإنْ عزَّ المحالُ فربّما فيضُ النجيع َمن العراق الدامي
من أينَ ينفحُ في اللآلىء روحَها فيحيلها قولاً كقول ِ حذام ِ
قرنٌ يصولُ ولا نراهُ خاشعاً الا لربهِ أو لعهدِ ذمــــــــام ِ
عشرونَ ألفــاً صُفـّفتْ أبيــاتها فاضتْ قرائحُـــها مــــن الآلآمِ ِ
من دوحة الشرفِ المعلـّى إرثهُ سوحُ النضـــالِ ومرتعُ الأعلام ِ
من (دجلةِ الخيِر) التي بضفافها (جرحُ الشهيدِ) وصرخة الأيتام ِ
من (أم عوفٍ)إْذْ تطارحُ ضيفها سمراً وردتْ روحَهُ بكلامِ ِ
منْ(أبكر الإصباح)يشدو زاهياًٍ شدو الرعاةِ وصبية الأحــــلام ِ
منْ(ريشةٍعظمُ الضحيةِ)عودُها رسمتْ خطوطَ المجدِ نفسُ عصام ِ
منْ(جلـّقٍ)واخضوضرتْ جنباتهُ قدْ فاحَ طيبــاً عبقهُ للشـّــــــــــام ِ
منْ يوم (عدنان ٍ) لآخر ِ يومــهِ ولهُ (دمشق ُ) تزفُّ بالأنـــــــغام ِ(4)
وسعَ الدُنى أفقاً وأجّج لهبهــــــا شـــعراً وحط رحالهُ بـ (وسام ِ)(5)
****************************************
يا شيخنا والشـــــعرُ قبسـة ُ قابس ٍ ولأنتَ بركــــــانٌ من الإضرام ِ
سارعتَ في وصفِ اللواعجِ لمحة ً بشواردٍ حُبكتْ على الإحكــــام ِ
ووضعتَ ما عجزَ الأوائلُ خاتمــاً شأو القريض ِلذمّة الإعجــــام ِ
ولقد تركتَ الأصــــغرين (كحرّةٍ ولدتْ ) بدون تدلـّل ٍ ووحــــام ِ
فهتكتَ من لبسَ الـــرياءَ ويكتسي وجهَ العفيفِ بطانة َ الإجــــرام ِ
فتلونتْ تلكَ الطبـــــاعُ واصبحتْ بعدَ النقاءِ كحشوةِ الألغـــــــــــام ِ
فالشــــــــــعرُوجدانٌ لأمةِ يعربٍ إلهـــامُ إنســـــانيةِ الأقــــــــــوام ِ
وبدونهِ تخبو الحيـــــــاةُ كآلـــــةٍ صمّاءَ والإنســـانُ لحمُ ركـــــام ِ!!
نكتفي بهذا القدر الوافي من القصيدة , ونتركك بآمان الله وحفظه, والجواهري الى رحمة ربّه, والى الملتقى عند شاعرنا اللبيب , وكلُ آتٍ قريب !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر بن الشيخ عبد الرحيم النجفي , ولد في النجف الأشرف بحدود 1192هـ / 1778م (تختلف الروايات في سنة ولادته) ,وتوفي فيها سنة 1266 هـ / 1850م , ودفن في مقبرتهم الشهيرة قرب الصحن الحيدري الشريف , تزعم الحوزة , وكان المرجع الأعلى للطائفة الامامية في جميع أنحاء العالم , اشتهر بموسوعته الفقهية الاستدلالية ( جواهر الكلام ) , أنجب من الذكور ثمانية , كلهم خلفوا الا الشيخ حسين ,إذ توفي شابا قبل الزواج , والعائلة الجواهرية ترجع بكنيتها , ومجدها وشهرتها إليه.
(2) هنالك روايات تجعل ولادته في 17 ربيع الأول سنة 1317 ه ـ,لذلك عزفت عن ذكر الشهر واليوم لعدم تيقني تماما من صحتهما.
(3) توفي الرصافي 1945م , وقال الجواهري بيته في ذكرى الرصافي 1959م .
(4) العقيد عدنان المالكي شهيد الجيش السوري , وجهت دعوة مشاركة للجواهري في الحفل التأبيني الأول المقام سنة 1956م, إذ شارك بقصيدته الهمزية , وبعدها بعام شارك برائيته , ومنها البيت ( أنا العراق ..).
(5) في سنة 1995 م قـُلد الجواهري وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة ـ تكريما للشعر ورجالاته في الوطن العربي , وأقيم للمحتفى به احتفالا كبيرا , وقلدته وزيرة الثقافة السورية الدكتورة نجاح العطار الوسام , ونظمتُ قصيدة بائية مطولة نشرتها الصحف السورية ,ومطلعها مستوحى من (حييت سفحك...) ومن (أرح ركابك من أين ٍ ومن عثر ِ) :
حييتُ مجدكَ ربَّ الشعر ِ والأدبِ عطراً لذكراكَ بعدَ الأين ِ والوصبِ
يا جوهرَ الشـــعر ِدرّاً حينَ تحبكهُ خيطَ اللجينِ بخيطِ العســجدِ الذهبِ
سنذكر بعض المقاطع منها في الحلقة الثانية .
0 comments:
إرسال تعليق