تسويق أوهام فلسطينية/ نقولا ناصر

(تمثل أزمة السلطة الفلسطينية المالية الحالية إخفاقا ذريعا للسياسات الاقتصادية والتفاوضية التي انتهجها قيادة منظمة التحرير بعد استشهاد ياسر عرفات)

عشية "يوم الأرض" والذكرى السنوية العاشرة لأسره، طالب القيادي الفلسطيني الأسير مروان البرغوثي ب"التوقف عن تسويق الأوهام" بإمكانية إنهاء الاحتلال وإنجاز دولة عن طريق المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وحث على "مقاطعة شاملة" اقتصادية وسياسية وأمنية، "رسميا وشعبيا"، للاحتلال ودولته و"توجيه دعوة رسمية فلسطينية" للدول العربية والاسلامية والصديقة "لمقاطعتها" و"عزلها" و"مقاومة ورفض كل اشكال التطبيع" معها، وهي دعوة متناقضة لأنها ترقى إلى "تسويق أوهام" أيضا باحتمال أن تلقى دعوته أي استجابة لها فلسطينية أو عربية أو إسلامية في أي مدى منظور، في الأقل على المستوى "الرسمي".

ويكفي استعراض بعض التطورات الأخيرة لإثبات ذلك.

فالتقارير التي عرضتها القناة الثانية في تلفاز دولة الاحتلال الأسبوع الماضي عن "الهدايا الثمينة" التي تلقاها رئيس الاستخبارات الخارجية للموساد، مئير داغان، من "زعماء عرب"، ومنها ،كما يبدو بالاستدلال، مسدسان من نوع "طارق"، صناعة عراقية، مختومان بصورة جندي بابلي مهديان من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وباعهما جيش الاحتلال في مناقصة مؤخرا، هي تقارير ترمز إلى "المزاج الرسمي" والتوجه العام في الدول العربية الذي تدفع سورية اليوم ثمن الشذوذ عنه والذي يبدي الاستعداد لفتح معارك عربية – عربية وعربية – إسلامية على كل الجبهات إلا الجبهة الفلسطينية الوحيدة الجديرة بالمعارك مع العدو الأول للعرب والمسلمين جميعهم.

ومقاومة التطبيع ورفضه، على سبيل المثال، اللذين حث البرغوثي عليهما قد تلقيا مؤخرا رفضا ومقاومة لهما، فلسطينيا وعربيا. وإذا كانت زيارة أمراء أردنيين للمسجد الأقصى يمكن الدفاع عنها برعاية أردنية لثالث الحرمين الشريفين منصوص عليها في معاهدة السلام الأردنية – الاسرائيلية، فإن زيارة الداعية الاسلامي اليمني الأصل الحبيب علي الجفري سوغها صاحبها ب"الاستجابة" لدعوة مفتي القدس والديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين، كما أعلن الجفري، بالرغم من معارضة قيادات دينية وإسلامية فلسطينية مثل رئيس الهيئة الاسلامية العليا في القدس الشيخ عكرمة صبري وحركة المقاومة الاسلامية "حماس"، وهي زيارة تجد مسوغات لها كذلك في تصريح رسمي أعرب فيه نمر حماد، مستشار الرئيس محمود عباس عن "فائق التقدير" لموقف الجفري "الشجاع".

كما تجد زيارة الجفري مسوغا لها في تكرار دعوة عباس الحماسية لزيارة القدس تحت الاحتلال، التي تصطدم مباشرة وبقوة مع دعوة البرغوثي، الذي قد يجد عزاء له في الانقسام الفلسطيني والعربي والاسلامي بين قلة مؤيدة لها وأغلبية معارضة وحدت بين معارضين للزيارة يختلفون على كل شيء آخر مثل الشيخين يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومحمد سعيد البوطي رئيس اتحاد علماء بلاد الشام الذي اعلن عن تأسيسه في دمشق نهاية الأسبوع الماضي، ناهيك عن الحظر الذي فرضه الراحل البابا شنودة بطريرك أقباط مصر على زيارتها وهو حظر يستمر بعد رحيله بدليل رفض كنيسة القيامة استقبال حفنة من الحجاج الأقباط وصلوا الى القدس المحتلة بمناسبة عيد الفصح ممن اعتقدوا أن الحظر قد انتهى بموته.

والمفارقة أن دعوة عباس لزيارة القدس، بغض النظر عن نواياه،لا يمكن إلا أن تستثمر في خدمة "الاقتصاد الإسرائيلي"، فهي قد تزامنت مع إعلان رئيس بلدية القدس المحتلة نير باركات عن خطة له تستهدف جذب عشرة ملايين سائح سنويا إلى القدس، وأنه نجح فعلا في اجتذاب (3.5) مليون سائح لها خلال عام 2011 الماضي (سي بي اس الأميركية في 5/4/2012).

ومن شبه المؤكد أنه لو استجاب العرب والمسلمون لدعوة عباس فإن باركات سوف يحقق هدفه في المدى القريب المنظور، في دعم أكيد ل"الاقتصاد الصهيوني"، يمنح "شهادة أخلاقية" للاحتلال كي يستمر في تهويد المدينة المقدسة، كما قال نائب رئيس المكتب السياسي ل"حماس" موسى أبو مرزوق.

ومن الواضح أن دعوة عباس ورفض حماس لها يضيف سببا جديدا للتنصل من الاستحقاقات الملحة للمصالحة الوطنية، كما تصطدم دعوته أيضا اصطداما مباشرا مع مطالبة البرغوثي ب"توجيه دعوة رسمية فلسطينية" للدول العربية والاسلامية والصديقة "لمقاطعة" دولة الاحتلال و"عزلها" سياسيا واقتصاديا، مما يشير كذلك إلى بوادر خلاف حول الاستراتيجية داخل صفوف حركة "فتح" التي يقودها عباس من ناحية ويشير من ناحية أخرى إلى أن القيادي الفتحاوي الأسير "يسوق" بدوره "أوهاما" بإمكانية الاستجابة لدعوته، في الأقل على المستوى "الرسمي" الفلسطيني أو العربي أو إلاسلامي.

أما دعوة البرغوثي إلى "إطلاق مقاومة شعبية واسعة النطاق" فهي بديل تكرر إعلان الرئيس عباس استبعاده له، مؤكدا المرة تلو الأخرى بأن إطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة ليس ضمن خياراته "المفتوحة"، ومعتبرا أن انتفاضة الأقصى الثانية التي كان البرغوثي أحد قياداتها البارزة "دمرتنا ودمرت كل ما بنيناه وما بني قبلنا".

ودعوة البرغوثي لمقاطعة الاحتلال ودولته "اقتصاديا" تواجه بدورها تحركا "رسميا" فلسطينيا وعربيا في الاتجاه الآخر، لا بل إن الاتجاه المعاكس لدعوته يشمل القطاع الخاص "غير الرسمي" كذلك، ففي تشرين الأول / أكتوبر المقبل من المقرر ان يتم في القدس المحتلة تأسيس "مركز القدس للتحكيم"، كمؤسسة "فلسطينية – إسرائيلية" مشتركة "غير سياسية" لحل المنازعات التجارية، ومن مؤسسي المركز رجال أعمال فلسطينيون، منهم منيب المصري، رئيس منتدى فلسطين وممثل ل"المستقلين" في الاطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، في خطوة وصفتها مريم جامشيدي في مقال لها مؤخرا بأنها مجرد "وسيلة أخرى لمأسسة النظام الاقتصادي للاحتلال".

إن ما وصفته فايننشال تايمز البريطانية في الثامن عشر من الشهر الماضي بأنه "أكبر أزمة مالية" تواجهها السلطة الفلسطينية منذ عام 1994 تتخذ الآن ذريعة لعدم الاستجابة لدعوة البرغوثي إلى المقاطعة الاقتصادية ربما بحجة أنها ستقود إلى استفحال هذه الأزمة، وهي أزمة من الواضح أن البرغوثي و"السلطة" يختلفان حول توصيفها، فالأول يبحث بدعوته إلى المقاطعة عن حل نهائي حاسم لأزمة اقتصادية – سياسية يعاني منها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال بينما تبحث السلطة عن حل مؤقت لأزمة "مالية" تعاني منها وتهدد ب"الانهيار المالي" للسلطة (أمين عام حزب الشعب بسام الصالحي) وتجد حلها في تلبية دولة الاحتلال لاستحقاقات استئناف المفاوضات التي طالب البرغوني ب"التوقف عن تسويق أوهامها" كطريق لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة.

منذ عام 2009 وتقارير السلطة والبنك وصندوق النقد الدوليين وغيرهم من "المسوقين" لوهم إقامة دولة فلسطينية عن طريق المفاوضات تتحدث عن معدل للنمو الاقتصادي الفلسطيني يتبارى مع المعدل العالمي الأول للصين حد أن توقع البنك الدولي أن يبلغ معدل النمو الفلسطيني (13%) عام 2013، وحد أن يتوقع رئيس وزراء السلطة برام الله سلام فياض الاستغناء عن المعونات الخارجية وأموال المانحين بحلول ذلك العام.

لكن ما وصف ب"أكبر أزمة مالية" تواجهها السلطة الآن كشفت القناع تماما عما وصفه البرغوثي ب"تسويق الأوهام"، لتنهار توقعات البنك الدولي وفياض ويتبدد وهم الاستقلال الموعود في أيلول/ سبتمبر الماضي فقط لأن دولة الاحتلال منعت تحويل حوالي مائة مليون دولار أميركي فقط هي حصة السلطة المستحقة من الرسوم الجمركية والضرائب، وليعترف رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني محمد مصطفى بفشل جهود بناء "مؤسسات اقتصاد مستدام" بعد سنوات من الحديث الصاخب عن بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية (في كلمة له في مؤتمر بمعهد السلام الأميركي في 2/11/2011).

وتمثل أزمة السلطة المالية الحالية إخفاقا ذريعا للسياسات الاقتصادية التي انتهجها فياض طوال السنوات الأربعة الماضية باسم الاستقلال الاقتصادي والسيادة الفلسطينية، بقدر ما تمثل إخفاقا للسياسات التفاوضية التي انتهجتها قيادة منظمة التحرير بعد استشهاد ياسر عرفات، بغض النظر عن صدق النوايا وجهود ما تصفه المصطلحات الأميركية ب"تحسين نوعية الحياة" في ظل الاحتلال.

لا بل إن تلك السياسات قد تمخضت كما يثبت اليوم عن نتائج عكسية تماما لا تدع مجالا لأي شك بأنها زادت من ارتهان السلطة للمانحين الدوليين والعرب وزادت من تبعية الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد دولة الاحتلال، وكلاهما، الاحتلال والمانحون، مسؤول رئيسي عن أزمة السلطة التي تصرف الأنظار بعيدا عن مسؤولية سياساتها عن الأزمة بتحميل المسؤولية لعدم تحويل قطاع غزة لتحصيلات الضرائب إلى خزينتها.

لقد صادق الرئيس عباس يوم الثلاثاء الماضي على قانون موازنة السلطة لعام 2012. وبغض النظر عن انتقاد "الجبهة الشعبية" لإقرارها دون موافقة المجلس التشريعي، فإن هذه الموازنة تمثل إصرارا على ما وصفه البرغوثي ب "تسويق الأوهام" حول "تقليص الاعتماد على المساعدات الخارجية"، حسب بيان مجلس وزراء فياض، بينما تأمل السلطة في سد عجز بحوالي مليار وثلث المليار دولار أميركي في موازنة عام 2012، ثمثل حوالي ثلث هذه الموازنة، عن طريق مثل هذه المساعدات، التي دعا وزراء خارجية اللجنة الرباعية الدولية أثناء اجتماعهم في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي إلى تأمين (1.1) مليار دولار منها.

وتمثل موازنة 2012 خطة لامتصاص المزيد من النزر اليسير المتبقي للشعب تحت الاحتلال، فهي تعد بتحسين "جباية الايرادات لتزيد بنسبة 17%" مقارنة بالعام المنصرم، وبالحد من الانفاق، بمزيد من "الاجراءات التقشفية"، وتقليص الدعم المالي لفواتير الكهرباء، وزيادة الايرادات بتعديلات على قانون الضريبة والرسوم، الخ.، في غياب أي رقابة أو موافقة تشريعية و"بعيدا عن القواعد النظامية والقانونية" كما قالت الجبهة الشعبية.

* كاتب عربي من فلسطين

CONVERSATION

0 comments: