ثورة... ترعى في وطن الربيع/ عبد العالي غالي


استحضر جيدا كل تلك الشعارات الرنانة التي حشرت بها  فظاعيات البترودولار عقولنا مع بزوغ شمس ما اصطلحوا عليه "الربيع العربي" واسميه "ربيع الهيستيريا"، فتختلط عندي الغصة بالحلم... ثم أعود وأصدق الأستاذ عبد الله القصيمي في قوله أن العرب ظاهرة صوتية... فهاهم مجددا يملكون الشمس والكون بالصوت، وهاهم يبلغون الديمقراطية والحرية والكرامة بالكلام عنها. وبذلك يثبت العرب أن أشهر مواهبهم تكمن في اعتقادهم أنهم يفعلون الشيء بمجرد الحديث عنه (...) فها قد شاخت ثوراتهم في كنف أهلها وانتهت أزهار الربيع ذابلة قبل أن يرتد إلينا طرفنا. وها نحن نتيقن بعد أن زالت الغشاوة أننا دخلنا مرحلة التيه الشامل والكبير ولا أرى بحثا عن توازن في الأفق...
نعم، لقد أتقنوا اللعبة إذ ألبسوا دلائل البله حلة الربيع، وجعلونا وغيرنا نصدق الهوس رغما عنا، بل وحتى رغما عن كل منطق سطره المفكرون حقا، لا أولئك الذين وصفوا بالعرب (...)، والذين لقبوا بالمفكرين زورا وبهتانا فاستأسدوا على الفكر الجمعي يبررون فجائية الجنون الجماعي بكون العرب أهل الخوارق والكرامات، ويحاولون إقناعنا أن ثوراتنا لا تسير بمنطق الثورات... فوحدها ثوراتنا يتبناها الأغنياء جدا لصالح الفقراء والمحرومين. وليذهب كل من قال بالصراع الطبقي إلى الأدغال عله يجد له بين الزواحف تطبيقا لبعض قوانينه... ووحدها ثوراتنا ينتصر لها الناتو والبيت الأبيض وأمراء النفط والبورصات، فيقيمون لها المؤتمرات العابرة للقارات، كما وتصرف فيها للثوار إكراميات... 
نعم، لقد أتقنوا اللعبة إذ جعلونا ننسى أن الكفاح الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من وجدان الشعب لا ذاك المدفوع الأجر. وصيرونا ابْعَـد ما نكون عن فهم الفرق بين الثائر والمرتزق، فأضحينا نفتخر إذ نحارب الباطل بالباطل وننتصر للحق بالظلم، فأمست الغاية تبرر الوسيلة في ديننا الحنيف (...)
نعم، لقد أتقنوا اللعبة في هذا الزمن المشبوه حيث اختلطت مفاهيم العدل والظلم، وترامى الجميع على حلبات الشرف، وأصبح ما كان واضحا مبرما بالأمس منقوضا متخلى عنه اليوم (...) فتناوبت العواهر على منابر الشرف وأبانت عن فصاحتها، وتسلط مرتزقة الإعلام على علم التاريخ ليحولوه إلى "دراما" سخيفة يواجه فيها الخير الساذج الشر الذكي... وفي خرق سافر لأبسط قواعد المنطق التي تجعل الاستدلال سابقا على الاعتقاد، تواطأ معهم فقهاء الفضائيات ومفكروها العرب (...) بأن دفعوا الشعب ليعتقد بما أرادوه، وتركوا له الحق بعد ذلك في أن يستدل عليه إن استطاع إلى ذلك سبيلا. كما واطل علينا من يحترف التلاعب بشظايا الحمق ليحول كل الحنق فينا سرابا وخرابا ودماء وصديدا، فيضيع كل الذي أردناه انتصارا ويصير كل غضبنا الشريف هباء منثورا، فتشيخ الثورة فينا قبل أن تبلغ الفطام ونبقى رهائن عبث الأوهام.
وها نحن، بعد سكرة الربيع تلك، نستفيق لنتأكد أننا ما أحسنا في ثوراتنا البلهاء غير العزف على أوتار الرعب والرحيل على صهوة المراثي، فقد جعلوا بمكرهم أحلام شعوب ملت حالها، ترتقي... وساعدهم على ذلك طول سنين القضم والهضم من العذابات. كما وعبّد لهم الطريق جيل ينجب الأجداد لا الأبناء كما تقتضي قوانين الطبيعة. إذ ما الفرق، إذ نشاهد التلفاز، بين من يحتفلون اليوم بنجاح ثورة الناتو في بنغازي ومن كانوا يحتفلون بنجاح ثورة الفاتح منذ أزيد من أربعين سنة؟ ولولا أن التقدم التكنولوجي جعل التلفاز بالألوان لأقسم المتابع أنهم أنفسهم، وما أظنهم قد غيروا حتى الأسماء ما دام الابن يسمي الحفيد باسم الجد تيمنا وبركة(...) بلى إنهم هم أنفسهم من نسجوا حلم ثورات مضت، ويغزلون اليوم الصوف لينسجوا من جديد حلم ثورات الربيع. ولأن "الثورة تأكل أبناءها" فليهيؤوا أجسادهم لتكون وقود نار المجانين حتى ينتصروا.
وحيث أن العاطفة لا ترغب أبدا في معرفة الحقيقة، برز إلينا من يردينا أن نبقى نتلوى بين زوايا الكذب والنفاق والرياء والخداع (...) لهؤلاء وأمثالهم نقول: "إذا كان عليك أن تكذب لتثبت صحة ما تؤمن به فاعلم أن ما تؤمن به كذبة"(...) وكم أطربني احد الظرفاء إذ قال إذا دخلت مدينة سكانها اقل دراية بتاريخهم وأكثرهم افتخارا به فمرحبا بك في وطن الثورة(...) وأظنه يقصد الثورة التي هي مؤنث الثور الذي فر يوما من حضيرة البقر.
وحتى ارفع عني بعض الحرج أمام من أعتبرهم أصدقاء اختم بقول المظفر النواب:
اغفروا لي حزني وخمري وغضبي
وكلماتي القاسية - بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس-
اروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه.

المغرب


CONVERSATION

1 comments:

Laksiouar nadia يقول...

Jamil makhatatho anam8loka ya ayoha l adib la9ad ahssanta wasfa ma2dobati li2am