قطار الخزي والعار: طاولة الشرف/ ناجي مل الوصفي

كتب الفارس اللبناني شربل بعينـي مقالاً صحفياً عن طاولات الشرف التي تتربع على عرش الصدارة في جميع الحفلات والمناسبات العربية في أستراليا. ثم جاءنـي هاتف من أحد الأصدقاء يقول لي أن هناك زلزالا صحفيا ضرب الجالية العربية في سيدني فأصاب العديد من الذين جلسوا على طاولات الشرف مرارا وتكرارا بالرعب والفزع والهلع. فقلت له وأنا لا استطيع أن أخفي فرحتي العارمة: لقد انتظرت هذا المقال منذ عام ١٩٨٥!
عام ١٩٨٥كان عاما مصيريا بالنسبة لمستقبلي. فقد عجزت في الحصول على عمل في الكمياء الحيوة بعد سنين طويلة من الفقر والجوع والحرمان أصرّيت خلالها على إفادة استراليا بالعلم الذي تعلمته في مصر. ولكن هيهات. غُلب حماري في أن اشرح لجهابذة الشركات أن التركيب الجزيئي molecular structure  لمادة الأسبرين في استراليا هو نفسه بالتمام والكمال التركيب الجزيئي للأسبرين في مصر وإسرائيل والبنجلاديش وجمهورية الموز. آذانٌ صماءٌ! وعقول متعصبة! والطريق مسدود.
 رفعت الراية البيضاء واستعوضت ربي في الجهد الذي بذلته في الحصول على بكالوريوس في الكمياء الحيوية (فرع تطوير أدوية) ووضعت شهادتي في صفيحة الزبالة وقررت أن أتخذ لي مهنة أخرى.
بدأت "اعربش" في حبال الترجمة. وبدأت في تجميع الأمثال اللبنانية والمصرية والعراقية في كتاب بعنوان "قناديل الأمل". وقد قادني هذا الطريق إلى الجالية العربية بكل ما فيها من جهابذة الأدب والفن والتجارة والسياسة. وكان لي الشرف في التعرف على جهبذ وراء جهبذ! مثل عربات القطار: جهبذ يجر جهبذ! جميع الجهابذة العرب بما في ذلك نساء ورجال متصلين ببعضهما مثل عربات القطار؛ قطار الخزي والعار: طاولة الشرف.
ويحك يا أخا العرب! ماذا فعل بك هؤلاء الجهابذة؟؟؟ لقد سقوني الحنضل أنواعا. الكاتب الصحفي الكبير لا يجيد فن الكتابة! ولا يعرف ما هي البلاغة!! والأسم الممنوع من الصرف عنده طلسما!!! (فكيف تسلم على أسعدَ؟؟؟!!!) (وكيف تذهب إلى يثربَ؟؟؟!!!) عبثا حاولت أنْ أشرح للجهبذ أن الاسم الممنوع من الصرف يجر بالفتحة نيابة عن الكسرة. ولم أذهب أو أحضر أي حفلة إلا ورأيت هذا الجهبذ يجلس على طاولة الشرف جنبا إلى جنبٍ مع بقية الجهابذة على قطار الشرف!!!
ومن هذا الجهبذ إنتقلت إلى جهبذ آخر كان يضع على مكتبه يافطة مكتوب عليها: شيخ المترجمين! ورحت أعصر الليمون أنهارا على روحي البائسة لكي أتحمل تخلفه؛ فقد جئته وأنا جوعانا لم أتناول إلا وجبة طعام واحدة منذ يومين وبيدي مسودة "قناديل الأمل". وكان أملي أن يساعدني الجهبذ الذي عينته الحكومة الأسترالية رئيسا للمترجمين في إيجاد مرجع من المراجع أنقح به كتابي حتى يخرج إلى الناس في حلة جميلة متكاملة.
قال لي الجهبذ الثاني أن جهبذا ثالثا سيحل ضيفا على طاولة الشرف في "خيمة الشيخ" بعد أسبوع واحد وأن هذا الجهبذ الثالث سوف يساعدني في توفير المراجع التي احتاج إليها.
وفي خلال هذا الاسبوع ارسلتنـي شركة الترجمة التي بدأت أعمل معها منذ فترة وجيزة إلى محكمة إشهار الإفلاس. وهناك تعرفت على الجهبذ التجاري الذي سرق أموال اليتامى ثم أشهر إفلاسه. وتدخل الجهبذ التجاري في عملي وحشر مناخيره الكبيرة في أمور لا يعرفها. وقال للقاضي أنه لا يحتاج إلى مترجم. وبدأ بالحديث باللغة الإنجليزية وراح يشرح كيف قامت جهة سيادية ""بقطع عيشه" (cut his bread) ؛ ولما لمْ يفهم القاضي هذا التعبير الذي لا لون له ولا رائحة ولا موضع من الإعراب، نظر سعادة القاضي إلي من اسفل نظارته الطبية ففهمت على الفور ما يريد وشرحت له باختصار أن هذا التعبير المضحك هو ترجمة حرفية فاشلة لما يرغب الجهبذ التجاري في قوله وأن الترجمة الصحيحة هي (spoil his livelihood). أنتهى اليوم بسلام بالرغم من الألم النفسي الذي سببه لي هذا الجهبذ.
وأنتهى الاسبوع بسلام أيضا ورحت في مساء يوم ممطر من أيام عام ١٩٨٥أبحث عن "خيمة الشيخ" وأحلم بلقاء الجهبذ الثالث على طاولة الشرف. وراح لعابي الثقافي يسيل لمجرد التفكير في قراءة "الأمثال" للميداني أو أحد أجزاء العُقد الفريد. وأخيرا وصلت إلى "خيبة الشيخ" ودلفت إلى البهو الخارجي وإذا بباب القاعة مغلقا.
رحت أدق على الباب، وإذا بجهبذ من جهابذة الطب يفتح لي الباب ويسألنـي عن التذكرة. فقلت له بادب شديد أننـي لا أحمل نقودا كافية لدفع التذكرة ولكننـي لم آتِ إلى هذه الخيبة لآكل أو لمشاهدة أفخاذ النساء العارية بل جئت لمقابلة الجهبذ الثالث ولن أمكث بالخيبة أكثر من بضعة دقائق للحديث مع جهبذ البلاغة وسأنصرف إلى سبيلى مباشرة.
قال لي الجهبذ الطبي أنه لن يسمح لي بالدخول إلا إذا دفعت ثمن "العشاء الفاخر"، أو إذا كنت أعرف أحدا من "اللاعيبة". فأخذت اهرش رأسي مثل الأجرب بحثا عن أسم شخصٍ يلعب الكرة. ولما لم أجد في جعبة ذاكرتي أحداً قلت لنفسي : "اضرب يا واد ضربة في العتمة يامشيت ياتنين عور!!"
نعم سيدي الطبيب أنا صديق حميم للواد لوكا العجيب.
قال الطبيب الجهبذ: حقا! اتعرف لوكا العجيب الّعيب؟
قلت له وحق هذه الخيبة الغراء أننـي أقرب صديق لهذا الجهبذ الرياضي الذي "يفتل" الكرة على صباع رجله الكبير مثل النحلة!
فقال الطبيب الجهبذ: إدخل إذا وإجلس هناك مشيرا بإصبعه إلى مؤخرة القاعة.
ودخلت الخيبة منتصرا ومشيت وأنا اقول للارض أتهدي ما عليكي ادي في الذكاء فقد أكلت بعقل الجهبذ الطبي ربع كيلو حلاوة. وفي زهوة الغرور جلست دون أن أدري على مائدة الشرف.
وبعد قليل جاءنـي شخص يرتدي ثياباً قذرة وتفوح منه رائحة الثوم والبصل وسألنـي عن أسمي. قلت له بفخر وأعتزاز: ناجي-أمل الوصفي. فنظر إلى بإحتقار شديد وازدراء قبيح وطلب منـي مغادرة الطاولة فهي مخصصة لضيوف الشرف ولا يجلس عليها شحاذ مثلي. ولما تأخرت برهة في النهوض شدني الكلب من طرف ثيابي ليجبرني على النهوض. وكدت أنْ "أفقعه بوكس" يرديه قتيلا إلا أننـي تذكرت المراجع التي احتاج إليها وبنتي الرائعة الجمال التي تنتظر عودتي إلى المنزل قطعة واحدة دون أن افقد يدا أو قدما. فنهضت وجلست على طاولة أخرى ارشدني إليها الكلب الزؤام.
ومرت دقائق معدودة خيل إلي أنها سنين طويلة واشتدت قرصة الجوع في جوفي الفارغ فبدأت التقط حبات من الفول السوداني المزرنخ من الصحن الذي أمامي.
وقبل أن تعود يدي إلى الصحن لتلتقط حبات أخرى من الزرنيخ، جاء شخص آخر تنبعث منه رائحة الكلاب أيضا ورماني بنظرة شريرة وأخذ اطباق المازات من على الطاولة التي كنت أجلس عليها في مؤخرة القاعة بالقرب من هدير الهواء المضغوط.
سالت الدموع من عينـي وأرتعش قلبي رعشة صفراء جعلتنـي ارغب في تقيوء حبتي الفول السوداني المزرنخ التي أكلتهما ولكني تماسكت. وانتظرت. وطال انتظاري.
وأخيرا رأيت حشدا من الوجهاء يدخلون إلى القاعة بصحبة مجموعة من النساء المبهرجات واتجهوا إلى قطار الخزي والعار: طاولة الشرف.
مَسَحَت عيناي قطار الخزي والعار مثل الماسحة التي تنسخ الصور. ويحك يا أخا العرب!! لقد رأيت الجهبذ الأول: الكاتب الصحفي الكبير  يجلس بجانب الجهبذ الثاني: شيخ المترجمين؛ وبجانبهما شخص ذو وجه خبيث عرفت لاحقا أنه جهبذ البلاغة؛ وبجانبه كانت المفاجئة التي قسمت ظهر البعير! الجهبذ التجاري الذي اشهر إفلاسه وضحّك القاضي على حماقته اللغوية.
عربة القطار طويلة! ومازالت وجوههم الكالحة مطبوعة في رأسي. وإذا أذن لي رب المجد يسوع المسيح في أن أعيش رجبا آخرا فسأكتب عنهم جميعا في كتاب ساخر تحت عنوان: قطار الخزي والعار: طاولة الشرف.

CONVERSATION

0 comments: