ما بينَ الممكنِ والمستحيل!/ آمال عوّاد رضوان

ولأنّني عاشقةٌ جبرانيّةٌ منذُ تفتّحت مجسّاتُ حواسّي على الحياةِ، كان جبرانُ سميري وخليلي وحبيبي، أتعزّى بحروفِهِ في حزني، وأتلهّى بكلماتِهِ في ضجَري، فيغمرُني ببصيصِ فرحٍ يُغبّطُني، ويُواسيني مداعبًا عاتبًا:
"ما أكثرَ ما تمتلىءُ البئرُ الّتي تسقين منها ضحكاتِكِ بفيضِ دموعِكِ، فعَلى قدْرِ ما يغوصُ الحزنُ في أعماقِكِ، يَزيدُ ما تستوعبينَ مِن فرحٍ، أليستِ القيثارةُ الّتي تَسكُنُ لها نفسُكِ، هي قطعةُ الخشبِ الّتي حفَرَها سكّين؟ حين يَستخِفُّكِ الفرحُ اِرجعي إلى أعماق قلبِكِ، فترَيْنَ أنّكِ في الحقيقة تفرحينَ بما كان يومًا مصدرَ حزنِكِ، وحين يَغمرُكِ الحزنُ تأمّلي قلبَكِ مِن جديدٍ، فسترَيْنَ أنّك في الحقيقةِ تبكين ممّا كان يومًا مصدرَ بهجتِكِ، فدعي الحاضرَ يُعانقُ الماضي بالذّكرى، والغدَ بالحنين!"
ولطالما يتمدّدُ الليلُ في اضطرابِهِ الكئيبِ يُناجيني، يَتثنّى نسيمُهُ العابثُ مُتمايلًا، بشَجيِّ نايِهِ يُناغيني، يُوشّحُني بأشباحِ الرّهبةِ وطَرحةِ الأخيلة، لتَزفَّني عرائسُ العتمةِ بنشيدٍ وديعٍ إلى كوّةِ الحزنِ، حيثُ أنّاتُ خليلي تنسابُ إلى عُمقِ روحي المُلبّدةِ بالسكينةِ!
تتسلّلُ.. تندسُّ في ثقوبِ خلوتي، تتخلّلني، تُجَبْرِنُني بعشِقِه المُفعمِ بأذيالي، وتُبشّرُني بفرحٍ آتٍ، يُتوّجُني بإكليلِ الحياةِ كي أكون! تتلبّبسني البسمةُ: أكونُ؟ كيف أكونُ؟ وأينَ أكون؟ ومتى أكون؟
هناك.. في الأفقِ الغافلِ عن مواعيدِهِ، تنهّدَتْ أجراسُ الحنينِ بأنفاسِها المسحورةِ، تُسكرُني بحنانِها الممشوقِ، وتدعوني مصابيحُها المُعطّرةُ بالنّور، إلى كأسٍ تمتلئُ بهتافِ غبطةٍ هامسٍ:
يا الكائنةُ ما بينَ الممكنِ والمستحيلِ، عسى قراءتي تلقى استحسانَكِ، وتنشرينها أينما ترغبين!
بسرورٍ، يا الناقد عبد المجيد جابر، يا مَن تُلهب غروريَ المتواضعَ بتحليلكَ الأدبيّ للقصيدة:
في مَهبِّ رَصِيفِ عُـزلَـة/ للشّاعرة: آمال عوّاد رضوان!؟
المَجهُولُ اليَكْمُنُ خَلفَ قلبي
كَم أَرهبُهُ يَتَكَثَّفَ وهْمًا
عَلى/ حَوافِّ غِلافِهِ
أَخشَاهُ يَحجُبُ برَائبِ غَيْمِهِ أَقمَارَ حُلمي
أن تَتَطاولَ يَدُ عَقلي
تَهُزُّني ../ تُوقِظُني ..
بِلُؤمٍ سَاخِرٍ
مِن سَكْراتِي الهَائِمَة
كَيفَ أَمنَحُكَ قلبيَ الآنَ
وقدِ اخْتَطفَتْهُ مَلائِكةُ الحُبِّ
إلى فُسحَةٍ في العَراء
كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ
حينَ تَتماوجُ في فَضاءاتِ الخَيالِ؟
كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ
وتَركُنَ حِيالَها عَاجِزًا .. شارِدَ الرُّوح !
آهٍ .../ ما أَشقاهَا المرأةَ
حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ
إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها
يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
قَد أَكونُ أَرهقتُكَ؛
بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قلبِي
أَشعرُ بالذّنْبِ
حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي
وما مِن ذَنْبٍ أَقترِفهُ
سِوَى أن تتكَبَّدَ جَرِيمةَ حُكْمِي
أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ
حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي
بِلُؤمٍ أَبْلَه
أَحتَاجُ إليكَ ..
بِنَسيمِكَ أَكُونُ مَلكْتُنِي
وَبِغُبَارِكَ أَكُون خَسِرْتُنِي
فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ
في كُؤوسِ ضَعفِي
ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي
أَرهبُ عليكَ مُنازلتَها الشَّقِيَّة
ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات !
لَيْتكَ تَغمُرني كلَّ آنٍ
بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ
قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ
كَيفَ آمرُنِي أَن أُغادِرَكَ ؟
وقَلبُكَ احْتَلَّنِي
رُوحُكَ تَتجلَّى في مَرايا رُوحِي
وأنتَ ظِلِّي المُلاَصِقُ
بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ..
أنا المَصقُولةُ بِكَ / المَرهونةُ لَك
كَم بِتُّ رَهِينةَ رَوعَتِك !
أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ
يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم
أَجزَعُ وأَهرُبُ
كي لا أُكَابِدَ/ في وحدَتي
مَغَارزَ الأَلَم
لا تَترُكْني رَعشةً
في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة
رغم أَنَّ تلكَ النَّسائمَ أَصبحتْ
تَطِيبُ لي وتُغفِيني !
*ثانيًا: التّحليلُ الأدبيّ:
جوُّ النّصّ:  تتحدّث عن معاناة المرأة في صمتِها، ما بين البوح والكتمان، وما بين الممكن والمستحيل، وما بين المفروض والمطلوب، والحاجة الشخصيّة والحاجات المجتمعيّة، بكلّ الأحاسيس التي تُكابدها الأنثى في عزلتها، فهي تريد أن تكون شريك الرَّجُل أو أقلّ درجة، لكنّها لا تجد ذاتها، ولا تتلمّس كيانَها، في ظلّ مجتمع لا يُراعي أمانيها أو نبضَ أحاسيسها، فتظلّ أسيرةَ الوحدة... 
*الأفكارُ الرّئيسة:    
1. شعورُ الشاعرة بالرهبة والخوف، وهي ترى واقعَها وهمًا وخيالًا، فأقمارُ أحلامِها قد حُجبت واستُتِرتْ بفِعل المجتمع.
2. تتحسّسُ الشاعرةُ مرارةَ اليأسِ مِن جرّاء عزلتِها، لكنّ أحاسيسَها تسخرُ منها، وضميرَها يُؤنّبُها على عجْزِها.
3. ترى الشاعرةُ أنّ المرأة لم تعُدْ تثقُ بالرّجُل، أو المجتمع الّذي أبعدَها عن دوْرها الطبيعيّ، وقَلَبَها نبْعَ عطاءٍ اختطفتْهُ ملائكةُ الحُبّ.
4. تُعلنُ الشاعرةُ أنّ المرأة لديها رغباتٌ جامحةٌ وأمانٍ وأحلامٌ، لكنّها عاجزةٌ عن تحقيقِها، فتراها شاردةَ الذهن والوجدان أمام هذا الواقع المهمِّشِ لرغباتِها وأمانيها.
5. تُصوِّرُ الشاعرةُ ما في داخل المرأة، فهي امرأةٌ شقيّةٌ متوجّعةٌ، تُساقُ ورغباتُها وأحلامُها رغمًا عنها في غياهبِ الضّياع.
6. المرأةُ تُطالبُ بحقوقِها، لكنّ مطالبَها لا تتحقّقُ، وهي تشعرُ بتأنيبِ الضّميرِ، وهي عاجزةٌ بأحاسيسِها المُتدفّقة نحو الرّجُلِ الذي لا يُصغي لها.
7. المرأةُ تُعاقِبُ الرّجُلَ وتُعاتِبُهُ؛ لأنّه لا يستمعُ لمطالبِهان ولا يعملُ على تحقيق أمانيها، فكأنّهُ أبلهٌ لا يُحلّلُ ولا يعي ما تريدُه.
8. تتمنّى الشاعرةُ مِن المجتمع أن يَسمعَ لمطالبِها ونبضاتِ قلبِها وشوقِها، لتَسكُبَ في روح الرّجُلِ  حنانَها، ولِيُحَسِّسَها بمكانتِها، لكنّ الرّجُلَ يَصُمُّ أذنَيْهِ، ويخسَرُ هذا السّيلَ المُتدفّقَ مِن رِقّةِ أحاسيسِها وفيْضِ عطائِها.
9. انعدامُ الثّقةِ بينَ المرأةِ والرّجل، بينَ مَن يُنادي وبينَ مَن لا يَسمع.
10. تريدُ المرأةُ أن تتوحّدَ روحُها مع روح رجُلٍ لا يُهمِّشُها، لكن دون جدوى.
11. المرأةُ تبقى أسيرةَ وحدتِها.
لذلك نرى أنّ الأفكارَ عندَ شاعرتِنا في مقطوعتِها هذه مُنْصَبَّةً في قلبِ عناصر العملِ الأدبيّ مجتمِعة، (لقد بيّن روّاد الشعر العربيّ الحُرّ، كيف تندمجُ الأفكارُ مع بقيّة العناصر المُكوِّنةِ للقصيدة، بحيثُ لا يمكنُ فصْلُها عن السّياقِ الشعريّ، إذ تصبحُ جزءًا مِنَ البناء الفنّيّ والصّورة الفنّيّة. فالبياتي يرى "أنّ الأفكارَ تختلفُ في الصورةِ الشعريّة، فلا يَبرُزُ مِن القصيدة غيرَ بنائِها الفنّيّ وصُوَرِها الشّعريّة"(1 ). فالفكرةُ جزءٌ مِن عناصرَ كثيرةٍ تُكَوِّنُ مادّةَ القصيدة، ولا يُمكن فصْلُها عن المجموع أو تمييزِها مِن القصيدة. إنّها "ليست قيمةً تُضافُ إلى قيمةِ الفنّ في الشّعر، فيُصبحُ بها غيرَ ما هو، أو غيرَ ما كان"( 2)، بل هي مبثوثةٌ في كلّ العناصرِ المُكَوِّنة. 
الأشياءُ تفقدُ في الفنّ شيئِيَّتَها والأفكارُ فِكرِيَّتَها، لأنّها تنسلخُ عن أصلِها وتَلبَسُ فنّيّتَها، تُصبحُ رمزًا. الواقعُ في القصيدة يتخلّصُ "من نظامِهِ المكانيّ والزّمانيّ والنفسيّ والموضوعيّ"(3). 
*العاطفة:        
1. عاطفةُ الرّهبةِ والخوفِ مِن واقعِها الوهْميّ، والخيالُ مِن واقعِ عُزلتِها في المجتمع.
2.  التّبرُّمُ مِن مرارةِ اليأس، والسّخريةُ مِن نفسِها لعجزِها وضياعِها. 
3. عاطفةُ الأسى والحزن، بسبب انقطاعِ حبْلِ الثّقةِ بين الرّجُلِ والمرأة، ومِن شرودِ ذهنِها، وعجزِها.
4. التّوجُّعُ والتّألُّمُ مِن واقعٍ مرير. 
5. عاطفةُ الدّهشةِ والتّعجب مِن تصرّفاتِ الرّجُلِ الّذي يُفضِّلُ عُزلةَ المرأة، على أن تنسكِبَ وتتوحّدَ روحُهُ في روحِها.
6. عاطفةُ الحزن الشاعرة، فهي أسيرةُ وحدتِها.
      وتستمدُّ الشاعرةُ أفكارَها ومعانيها مِن تجربةٍ صادقةٍ، وعاطفةٍ قويّةٍ، فلا ريبَ في ذلك، فهي مُرهفةُ الأحاسيسِ، تُحِبُّ وتطمحُ في مشاركتِها للرّجُلِ وأعبائِهِ، مُتلهِّفة للرّجُل للتّوحُّدِ معهُ، على أن يُحسِّسَها بذاتِها وقيمتِها، بعيدًا عن واقعِ حياةٍ لا تَرحمُ، وقد تكرّرتْ معاني العُزلةِ ومترادفاتُها كثيرًا في المقطوعة؛ لتأكيدِ تَطلُّعِها وشوقِها بالإحساسِ بذاتِها وكيانِها، فهي تهربُ بقلبِها عن واقعٍ وحياةٍ سلبَتْها الحقوقَ، وأثقلتْ عليها بالواجباتِ، فوجدتْ في العُزلةِ والاعتزالِ خيرَ صديقٍ، وهيَ تَعجزُ عن التّغييرِ، فها هي تُعايشُ الأحداثَ بنفسِها، فانعكستْ تلكَ على أحاسيسِها ووجدانِها، وقد غلبتْ على المقطوعةِ نزعةُ الرّفضِ للواقعِ المُرِّ والمُزري، فارتفع صوتُها رافضًا هذا النّسيجَ المَبنيَّ على عدَمِ تقديرِ الإنسانِ لإنسانيّتِهِ، فتَهرُبُ أمامَ العجزِ وعدمِ التّمكُّنِ مِن التغيير، إلى خيرِ جليسِ وحدتِها وقلمِها، لتسطُرَ ما يحلو لها شعرًا نثريًّا، طلبًا للذّاتِهِ العقليّةِ والوجدانيّةِ، فهي المُلقي، والشِّعرُ هو الوسيلة، علّها تجدُ المتلقّي الذي يسمو بفِكرِهِ نحوَ الإبداع، ففي الشِّعر تُعبِّرُ عن ذاتِها وحُبِّها وآمالِها وأمانيها. 
*الخصائصُ الأسلوبيّة: أوّلًا: التّصويرُ الفنّيّ-
        *التّشبيهات: 
 أ. التّشبيهُ البليغُ: (وأنتَ ظِلّي المُلَاصِقُ): شَبَّهَت الشّاعرةُ نفسَها بظِلِّ الرّجُلِ، تشبيهٌ مفردٌ/ بليغ.
ب. التّشبيهُ التّمثيليّ: (يَترُكَها أَجِنّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها): صورةُ الرّجُلِ الذي يُهملُ عواطفَ المرأة، ولا يلتفتُ لأحاسيسِها، وهي تترقّبُ استجابتَهُ لها ولا يستجيبُ، بصورةِ الطّفلِ الّذي ينتظرُ ثديَ أمِّهِ ولا يحصلُ عليه.
*الصّوَرُ والاستعاراتُ:
المَجهُولُ اليَكْمِنُ خَلفَ قلبي
كَم أَرْهبُهُ يَتَكَثّفُ وهْمًا/ عَلى حَوافِّ غِلافِهِ
أَخشَاهُ يَحجُبُ برَائبِ غَيْمِهِ أقمَارَ حُلُمي
أن تَتَطاوَلَ يَدُ عَقلي
تَهُزّني ../ تُوقِظني ../ بِلُؤْمٍ سَاخِرٍ
مِن سَكْراتِي الْهَائِمَة
هنا مجموعةٌ مِن الصّورِ المُتلاحقةِ المُتتابعةِ، وهي كما القنواتُ العذبةُ،  تجري كلُّها وتتدفّقُ لتصبَّ جميعُها في الصّورةِ الكُلّيّةِ، وتتمثّلُ في صورةِ المرأةِ الّتي أُهمِلت في مجتمعِنا، وهي عاجزةٌ عن التّغييرِ، وغيرُ راضيةٍ على هذا الواقع، تتلوها صُوَرٌ جزئيّةٌ أخرى متتابِعةً ومتلاحِقة.
الصّورةُ الأولى: صورةُ امرأةٍ تشعرُ بالرّهبةِ والخوف، وهي ترى واقعَها وهْمًا وخيالًا، فأقمارُ أحلامِها قد حُجبتْ واسْتُتِرَتْ بفِعل المجتمع.
والصّورةُ الثّانية: صورةُ امرأةٍ تَشعُرُ بمرارةِ اليأسِ مِن جرّاء عُزلتِها، لكنّ أحاسيسَها تسخَرُ منها، وضميرَها يُؤنّبُها على عجْزِها.
كَيفَ أمنَحُكَ قلبِيَ الآنَ
وقدِ اخْتَطفَتْهُ مَلائِكةُ الحُبِّ/ إلى فُسحَةٍ في العَراء
صورةُ امرأةٍ لم تَعُدْ تثِقُ بالرّجُلِ، أو المجتمع الّذي أبعَدَها عن دوْرِها الطّبيعيّ، وقلبُها نبعُ عطاءٍ اختطفَتْهُ ملائكةُ الحُبّ.
كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ
حينَ تَتماوجُ في فَضاءاتِ الخَيالِ؟
كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ
وتَركِنَ حِيالَها عَاجِزاً .. شارِدَ الرُّوح!
صورةُ امرأةٍ لديها رغباتٌ جامحةٌ وأمانٍ وأحلام، لكنّها عاجزةٌ عن تحقيقِها، شاردةُ الذهنِ والوجدانِ أمامَ هذا الواقع المهمِّش لرغباتِها وأمانيها.
آهٍ .../ ما أَشقاهَا المرأةَ/ حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ
إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها/ يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
صورةُ المرأةِ الشّقيّةِ المُتوجّعةِ تُساقُ ورغباتُها وأحلامُها رغمًا عنها في غياهبِ الضّياع.
قد أَكونُ أَرهقتُكَ؛
بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قلبِي
أَشعرُ بالذّنْبِ/ حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي
وما مِن ذَنْبٍ أَقترِفهُ
سِوَى أن تتكَبَّدَ جَرِيمةَ حُكْمِي
صورةُ المرأةِ الّتي تُطالبُ بحقوقِها فلا تتحقّقُ، وهي تشعرُ بتأنيبِ الضّميرِ، وهي عاجزةٌ بأحاسيسِها المُتدفّقةِ نحوَ الرّجُلِ الّذي لا يُصغي لها.
أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ/ حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي
بِلُؤمٍ أَبْلَه
صورةُ المرأةِ الّتي تُعاقبُ الرّجُلَ وتُعاتبُهُ، لأنّهُ لا يَستمعُ لمَطالبِها، ولا يَعملُ على تحقيقِ أمانيها، فكأنّهُ أبلهٌ لا يُحلّلُ ولا يَعي.
أَحتَاجُ إليكَ ..
بِنَسيمِكَ أَكُونُ مَلكْتُنِي/ وَبِغُبَارِكَ أَكُون خَسِرْتُنِي
فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ
في كُؤوسِ ضَعفِي
ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي
أَرهبُ عليكَ مُنازلتَها الشَّقِيَّة
ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا/ أَغرقتُهُ في سُبَات!
صورةُ المرأةِ الّتي تتمنّى أن تُبادلَ الرّجُلَ الّذي يَسمعُ لمَطالبِها، لنبضاتِ قلبِها وشوقِها، وتسكبَ في روحِهِ حنانَها، ويُحسِّسُها بمكانتِها، لكنّ الرّجُلَ يَصُمُّ أذنيْهِ، ويخسرُ هذا السّيْلَ المُتدفّقَ مِن رِقّةِ أحاسيسِها وفيْضِ عطائِها.
لَيْتكَ تَغمُرُني كلَّ آنٍ/ بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ
قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ
صورةُ المرأةِ هي بحاجةٍ لرَجُلٍ يَسمعُ لآرائِها، ويُشاركُها آمانيها، ويوقظ أحاسيسَها النّائمة الّتي نوّمَها التّجاهلُ والتّهميشُ، وحينَها ستثقُ بالرّجُل، وتُزيلُ عن روحِها غشاوةَ الخوفِ والشّكّ.
كَيفَ آمرُنِي أَن أُغادِرَكَ/ وقَلبُكَ احْتَلَّنِي؟
رُوحُكَ تَتجلَّى في مَرايا رُوحِي
وأنتَ ظِلِّي المُلاَصِقُ
بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ..
أنا المَصقُولةُ بِكَ/ المَرهونةُ لَك
كَم بِتُّ رَهِينةَ رَوعَتِك !
أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ/ يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم
أَجزَعُ وأَهرُبُ
كي لا أُكَابِدَ/ في وحدَتي/ مَغَارزَ الأَلَم
لا تَترُكْني رَعشةً/ في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة
رغم أَنَّ تلكَ النَّسائمَ أَصبحتْ/ تَطِيبُ لي وتُغفِيني !
 صورةُ المرأةِ تريدُ أن تتوحّدَ روحُها في روحِ الرّجُل، وتُصبحَ الرّوحانِ مُنسكبتَيْنِ في روحٍ واحدة، وتتمنّى منهُ ألّا يُهمِّشَها، لكن أمانيها تذهبُ أدراجَ الرّياح، وتبقى أسيرةَ وحدتِها. 
والدّلالةُ السيميائيّةُ لصُوَرِ المرأةِ الجزئيّةِ المُتلاحقةِ والمتتابعةِ في هذهِ المقطوعة، تجتمعُ وتتوحّدُ كلّها في فضاءٍ نفسيٍّ وفِكريٍّ واحدٍ، وتعودُ لأصلِها الأمّ الدّلالةُ الكبرى، أو الصّورة الكبرى المُتمثّلة في تهميش دوْرِ المرأةِ في المجتمع.
ويرى كروتشيه أنّ المضمونَ والصّورةَ يجبُ أن يُميَّزا في الفنّ، لكن لا يمكنُ أن يوصَفَ كلٌّ منهما على انفرادٍ بأنّه فنّيّ، لأنّ النّسبة القائمة بينهما هي وحدها الفنّيّة، أعني الوحدة لا الوحدة المجرّدة، بل الوحدة العيانيّة الحيّة.(4)
إنّ الوصفَ والمجازَ والتّشبيهَ  يمكنُ أن يخلقوا صورةً، أو أنّ الصّورةَ يُمكنُ أن تُقدَّمَ إلينا في عبارةٍ، أو جملةٍ يَغلبُ عليها الوصفُ المَحضُ، ولكنّها توصِلُ لخيالِنا شيئًا أكثرَ مِن انعكاسٍ مُتقنٍ للحقيقةِ الخارجيّة.(5)
*ومن الاستعارات المكنيّة ما يلي: 
شبّهَت العقلَ بشيءٍ يَهُزّ ويوقظُ ويلومُ ويسخرُ.(تَهُزُّني../ تُوقِظُني../ بِلُؤمٍ سَاخِرٍ):
وشبّهَت السّكراتِ بكائنٍ حيٍّ يَهيمُ: (مِن سَكْراتِي الهَائِمَة/ كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ/ حينَ تَتماوجُ في فَضاءاتِ الخَيالِ؟)
شبّهتِ الرّغباتِ بشيءٍ يتذبذبُ ويتماوجُ: (كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ)
شبّهَت الرّغبة بسجينٍ يُقيَّد:      (حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ)
شبّهَتِ الشّوقَ بإنسانٍ يَرمي:     (كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ)
شبّهَتِ الحجارةُ بإبرةِ ترمي:    (حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي)
شبهت الروح بثمرةٍ تُعصَر:      (فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ)
شبّهَت الضّعفَ بسائلٍ يُوضعُ في كأس:   (في كُؤوسِ ضَعفِي)
شبّهَت الآمالَ بشيءٍ لهُ قشرةٌ:       (ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي)
شبّهَت الحنينَ بإنسانٍ نائمٍ:   (ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات!)
شبّهَت كُلًّا مِن الحزنِ والعذاب بشيءٍ يَغمرُ: (لَيْتكَ تَغمُرني كلَّ آنٍ/ بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ)
 شبّهّت الشّوْقَ بإنسانٍ يُدَثّرُ، والإثمَ بإنسانٍ يَرتدي ثوبًا: (أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ/ يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم).
*ب. الاستعارة التصريحيّة:
 شبّهَت الشّاعرةُ ثورةَ الفِكرِ بالضّجيج، ورفْضَ القلبِ للواقعِ بالضّوضاءِ: (قَد أَكونُ أَرهقتُكَ؛/ (بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قَلبِي):
شبَّهَت الشّاعرةُ إزالةَ كلّ مظاهرِ الخوفِ والشّكّ بالقتل: (أَشعرُ بالذَّنْبِ/ قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ)
شبّهَتِ الشّاعرةُ تَمَلُّكَ الرّجُل لقلبِها بالاحتلال: (وقَلبُكَ احْتَلّنِي)
*الكنايات: 
(في مَهبِّ رَصِيفِ عُـزلَـة): كناية عن عُزلةِ المرأة.
(المَجهُولُ اليَكْمِنُ خَلفَ قَلبي): كناية عن واقعِ المرأةِ المجهولِ مستقبلًا.
(كَم أَرهبهُ يَتَكَثَّفَ وهْمًا/ عَلى/ حَوافِّ غِلافِهِ أَخشَاهُ يَحجُبُ برَائبِ غَيْمِهِ أَقمَارَ حُلُمي): كناية عن خوفِ المرأةِ مِن استمراريّةِ تجاهلِ الرّجُلِ لها.
(مِن سَكْراتِي الهَائِمَة): كناية عن ذهولِ المرأةِ في هذا الواقعِ المُهين. 
(كَيفَ أَمنَحُكَ قَلبي الآنَ/ وقد اخْتَطفَتْهُ مَلائِكةُ الحُبِّ/ إلى فُسحَةٍ في العَراء): كناية عن أنّ المرأةَ لن تَمنحَ الرّجُلَ عذبَ أحاسيسِها ما دام مُتجاهِلًا لها.
 (كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ/ حينَ تَتماوجُ في فضاءاتِ الخَيالِ؟/ كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ): كناية عن تألُّمِ المرأةِ لعُزلتِها.
(وتَركُنَ حِيالَها عَاجِزًا.. شارِدَ الرُّوح!): كناية عن عجْزِ المرأة وعدمِ قدرتِها في التغيير. 
(حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ/ إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة): كناية في كلٍّ عن قيودِ المرأةِ التي تكبِّلُ مِعصمَيْها.
(كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ/ في سَحيقِ هَاوياتِها/ يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ): كناية عن ضياعِ أحلامِ المرأة.
(يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها): كناية عن ترقُّبِ المرأةِ.
(حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي): كناية عن غضبِ المرأةِ لتصرُّفاتِ الرّجُلِ ومحاولتِهِ تهميشها.
(أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ/ حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي/ بِلُؤمٍ أَبْلَه): كناية عن راحةِ المرأة في عقابها للرَّجُلِ المُهمِّش دوْرضها في الحياة.
(أَحتَاجُ إليكَ ../ بِنَسيمِكَ أَكُونُ مَلكْتُنِي/ وَبِغُبَارِكَ أَكُون خَسِرْتُنِي): كناية عن حاجةِ المرأةٍ لرَجُلٍ يُقدِّرُ أحاسيسَها، ويُشعرُها بذاتِها ووجودِها.
(فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ/ في كُؤوسِ ضَعفِي/ ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي): كناية عن مُطالبةِ المرأةِ للرّجُلِ ألّا يَستغلَّ ضعفَها، ويستمرَّ في تضييعِ آمالِها.
(ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات!): كناية عن فقدِ المرأة لعذبِ أحاسيسِها، في غمرةِ التقصيةِ والتّهميش. 
لَيْتكَ تَغمُرني كلَّ آنٍ/ بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ/ (قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ): كناية عن تطلّعِ المرأة لتلعبَ دوْرَها في الحياة، واللّحاق بعربةِ التقدّم.
(كَيفَ آمرُنِي أَن أُغادِرَكَ ؟/ وقَلبُكَ احْتَلَّنِي/ رُوحُكَ تَتجلَّى في مَرايا رُوحِي/ وأنتَ ظِلِّي المُلاَصِقُ/ بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ../ أنا المَصقُولةُ بِكَ/ المَرهونةُ لَك): كناية في كلٍّ عن التصاقِ المرأةِ بالرّجُل، وخاصّة إذا قَدّرَ أحاسيسَها.
(كَم بِتُّ رَهِينةَ رَوعَتِك !/ أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ/ يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم/ أَجزَعُ وأَهرُبُ/ كي لا أُكَابِدَ / في وحدَتي / مَغَارزَ الأَلَم/لا تَترُكْني رَعشةً/ في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة / رغم أَنَّ تلكَ النَّسائمَ أَصبحتْ/ تَطِيبُ لي وتُغفِيني !): كناية في كلٍّ عن تألُّمِ المرأةِ لواقعِها المُهمَّش.
*المجاز المُرْسَل: (أن تَتَطاولَ يَدُ عَقلي): ذكَرَت الشّاعرةُ اليدَ (الجزءَ)، وأرادت بهِ الكلَّ، مَجازٌ مُرسَلٌ علاقتُهُ الجزئيّةُ أو السّببيّة.
*ثانيًا: التعبيرُ (اللغة والأساليب): ويذهبُ عزّ الدّين إسماعيل إلى أنّ القصيدةَ الحديثةَ غامضةٌ على مستوى رؤيا الشاعر ولغتِهِ المستعملة، "لأنَّه ما دامت الرّؤيا مغايرةً لِما هو مألوفٌ، وكانت اللّغة المستخدمَةُ خاضعةً لطبيعةِ هذه الرّؤيا، فإنّه مِن الطّبيعيّ أن يُغلّفَ القصيدةَ إطارٌ مِن العتمة، ويجعلَ الولوجَ إلى عالمِها شاقّا" (6).   
وقد تعرّضَ روّادُ الشّعرِ العربيّ الحُرّ لظاهرةِ الغموضِ في القصيدةِ الحديثة، وعَدُّوا ذلكَ مِن طبيعةِ الشّعر، لأنَّهُ رؤيا تكشفُ المجهولَ، وتتجاوزُ الرّاهنَ، وتقولُ المستقبل. ولأنّ لغتَهُ إبداعيّةٌ تخترقُ العادي، لتقولَ ما لا تستطيعُ اللّغةُ العاديّةُ قولَه.(7)
*1.الألفاظ والتراكيب
أ. العنوان: القصيدة بعنوان (في مَهبِّ رَصِيفِ عُـزلَـة)، فالعنوانُ يتشكلُ مِن جارٍّ ومجرورٍ، وهو خبرٌ لمبتدأ محذوف، يتلوهُ مُضافٌ ومضافٌ إليهِ مرّتيْنِ، وكلمة (مهبّ):
ابن سيّده: هَبَّتِ الريحُ تَهُبُّ هُبُوبًا وهَبِـيبًا: ثارَتْ وهاجَتْ؛ وقال ابن دريد: هَبَّتْ هَبًّا، وليسَ بالعالي في اللّغة، يَعني أَنّ المعروفَ إِنّما هو الـهُبُوبُ والـهَبيبُ؛ وأَهَبَّها اللّهُ. الجوهريّ: الـهَبُوبةُ؛ الرّيحُ الّتي تُثِـير الغَبَرة، وكذلك الـهَبُوبُ والـهَبيبُ. تقول: من أَين هَبَبْتَ يا فلان؟ كأَنك قلت: مِن أَين جِئْتَ؟ من أَينَ انْتَبَهْتَ لنا؟ وهَبَّ من نَوْمِهِ يَهُبُّ هَبًّا وهُبُوبًا: انْتَبه؛ أَنشد ثعلب: فحَيَّتْ، فحَيَّاها، فهَبَّ، فحَلَّقَتْ، * مَعَ النَّجْم، رُؤْيا في الـمَنام كَذُوبُ وأَهَبَّه: نَبَّهَه، وأَهْبَبْتُه أَنا. وفي حديث ابن عمر: فإِذا هَبَّتِ الرِّكابُ أَي قامَت الإِبلُ للسَّير؛ هو مَن هَبَّ النائمُ إِذا اسْتَيْقَظَ. وهَبَّ فلانٌ يَفْعَل كذا، كما تقول: طَفِقَ يَفْعَلُ كذا. وهَبَّ السّيفُ يَهُبُّ هَبَّةً وهَبًّا: اهْتَزَّ، الأَخيرةُ عن أَبي زيد. وأَهَبَّه: هَزَّه؛ عن اللّحياني. الأَزهريّ: السيفُ يَهُبُّ، إِذا هُزَّ، هَبَّةً.(8)
فكلمة (مَهَبّ) هي اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ ميميّ، ومعناها الدّلاليُّ التّحرّكُ والانطلاقُ، ولكنّ الحركةَ ليست موجبة، بل تحملُ في ثناياها ما لا يُحمَدُ عقباه، كهُبوب الرّيح عندما تحملُ معها الغبرة. وعبارة (رصيفُ عزلة): كناية عن الشّيءِ المركونِ مُنعزلًا، فكأنّي بالشّاعرة تريدُ أن تقولَ، بأنّ المرأةَ هنا معزولةٌ، لا يُسمَعُ لها رأيٌ.
عزل: عَزَلَ الشّيءَ يَعْزِلُهُ عَزْلًا، وعَزَّلَهُ فاعْتَزَلَ، وانْعَزَلَ وتَعَزَّلَ نَحَّاهُ جانِبًا فَتَنَحَّى، وقولُهُ تعالى إِنَّهُم عن السَّمْع لَمَعْزولون، معناهُ أَنَّهم لَمَّا رُمُوا بالنّجوم، مُنِعوا منَ السَّمْع، واعْتَزَلَ الشّيءَ وتَعَزَّلَهُ ويتعدّيانِ بعَنْ، تَنَحَّى عنهُ، وقولُهُ تعالى فإِنْ لم تُؤْمِنوا لِي فاعْتَزِلونِ، أَرادَ إِنْ لم تؤمنوا بي فلا تكونوا عَليَّ ولا مَعِي، وقَوْلُ الأَخوص يا بَيْتَ عاتِكةَ الَّذي أَتَعَزَّلُ حَذَرَ العِدى، وبهِ الفُؤادُ مُوكَّلٌ، يكونُ على الوجهيْن، (* قولُهُ «يكون على الوجهيْن»، فلعلهما تعدي أتعزل فيه بنفسه وبعن كما هو ظاهر)، وتَعَاَزَلَ القومُ انْعَزَلَ بَعْضُهم عن بَعض، والعُزْلةُ الانْعِزال نفسُه، يُقالُ العُزْلةُ عِبادة، وكُنْتُ بمَعْزِلٍ عن كذا وكذا، أَي كُنْتُ بموْضعِ عُزْلةٍ منه، واعْتَزَلْتُ القومَ أَي فارَقْتهم وتَنَحَّيْتُ عنهم. قال تأَبَّط شَرًّا: ولَسْتُ بِجُلْبٍ جُلْب ريحٍ وقِرَّةٍ، ولا بصَفًا صَلْدٍ عن الخير مَعْزِل، وقَوْمٌ من القَدَرِيَّةِ يُلَقَّبونَ المُعْتَزِلة زعموا أَنّهم اعْتَزَلوا فِئَتي الضّلالةِ عندهم، يَعْنُون أَهلَ السُّنَّة والجماعةِ والخَوَارجَ. (9).
ب‌. استخدَمت الشّاعرةُ في نصّها لغةً سهلةً موحِية تخاطبُ عقولَ النّاس، وقد جاءت ألفاظ معجمِها الشعريّ مناسِبة ومعانيها مطابقة للأفكار، ولقد اختارت ألفاظها وكلماتها مِن معجم يوحي بالضياع، وتمنّي الخروج من عزلتها.
ج. ولقد‌ جاءت تراكيبُها متناغمة بعضها مع بعض، رقيقة متينة موحِية، فيها من الرّمز الجزئيّ تعبرا عن رفضها للواقع، فاستخدمت أسلوبَ "الاتّساع" وهو واحد من الأساليب التّحويليّة، الّتي تطرأ على العبارات والتراكيب النحويّة، ويُعرّفُه المُحْدِثون مِن المشتغلين بالدّراساتِ اللّغويّة، بأنّه عمليّةٌ نحويّة تأتي عن طريق إضافة بعض العناصر الجديدة إلى المُكوّناتِ الأساسيّة، دون أن تتأثّر تلك المُكوّنات"، كالاستعاراتِ الكثيرةِ والتشبيهات والكنايات، ووضّحَ بعضُ البلاغيّينَ هذهِ الظاهرة، وأطلقوا عليها مصطلح "الاتّساع.
وقد عبّر عن هذا المفهوم، مفهوم الاتّساع أو الانزياح "جان كوهن" وقال: بأنّه الأسلوبُ في كلّ ما ليس شائعًا، ولا عاديًّا، ولا مُطابِقًا للمعيارِ العامّ المألوف، وهو يُشخّصُ اللّغة الشّعريّة باعتبارِها انحرافًا عن قواعدِ قانون الكلام، ورأى جاكوب كورك أنّ أكثرَ الوظائفِ حيويّة للصّورة الاستعارة والصّورة الشّعريّة، أي خلق معانٍ جديدة مِن خلال صِلاتٍ جديدة، ومنها في النّصّ الاستعاراتُ والتّشبيهاتُ والكنايات، والحذف...
ويرى بعضُ النّقّادِ الأسلوبيّينَ أنّ الانحرافَ مِن أهم الظّواهر الّتي يَمتازُ بها الأسلوبُ الشّعريّ عن غيره، لأنّه عنصرٌ يُميّزُ اللّغة الشّعريّة، ويَمنحُها خصوصيّتَها وتوهّجَها وألقها، ويجعلُها لغة خاصّة تختلفُ عن اللّغة العاديّة، وذلك بما للانحرافِ من تأثيرٍ جَماليٍّ، وبُعدٍ إيحائيّ. واتّسمت القصيدةُ بمجموعةٍ مِن الخصائصِ الفنّيّةِ، مُتمثّلة في الوحدةِ العضويّةِ والموضوعيّة. 
*2. الأساليبُ الخبَريّة والإنشائيّة:
 ا. راوحت الشّاعرةُ بين استعمال الأساليبِ الخبَريّة والإنشائيّة؛ فاستهلّت قصيدتَها بالأسلوب الخبَريّ لتأكيدِ الذّات؛ وليُناسبَ الغرضَ، فاستخدَمَته؛ لتُجسّدَ مدى تقديرِها لمشاعرِها وأحاسيسِها، حماية لها مِن عَبثِ العابثين، ولتأكيدِ ذاتِها بارتباطِها بآمالِها وأحلامِها، ثمّ استَخدَمَت الأسلوبَ الإنشائيّ، فاستخدمت:
* الاستفهامَ في قولِها، ويُفيدُ في كلّ التّعجّب:
(كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ).
(كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ).
 (كَيفَ أَمنَحُكَ قَلبي الآنَ).
*. ومِنَ الأساليبِ الإنشائيّة الّتي وظّفتها الشاعرةُ أسلوبَ النّهي: 
فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ/ في كُؤوسِ ضَعفِي.
ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي.
أَرهبُ عليكَ مُنازلتَها الشَّقِيَّة.
ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات !
والنّهيُ في كلٍّ يُفيدُ الالتماسَ.
ج. استخدمت الشّاعرةُ أسلوبَ المتكلّم (لي)؛ لتأكيد الذّات، والذّات المخاطبة تُحاولُ الفرارَ مِن واقعِها الأليم لتشكيلِ عالمها الخاصّ، وضمير الأنا يستشعرُ هوْلَ المأساة ومرارةَ الواقع المُهين والمُزري، وتُدركُ أنّها تنتمي إلى زمنٍ رديءٍ مرٍّ مُهين. كما استخدمت ضميرَ الآخر (أنت) كما في قولها: ( أنتَ ظِلّي المُلاصِق). كما استخدمت أسلوبَ الغيبة والفعل المبنيّ للمجهول؛ لتبيان دوْر المرأة المُغيَّب كما في قولها: 
آهٍ .../ ما أَشقاهَا المرأةَ
حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ/ إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها/ يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
 د. استخدمت أسلوبَ الإيجازِ بالحذفِ كما في عنوانِ القصيدة، وكما في قولها:          (المَجهُولُ اليَكْمِنُ خَلفَ قَلبي)، والتقدير: (المَجهُولُ إليَكْ يا مِنُ خَلفَ قَلبي)
ه. استخدمت الشّاعرةُ أسلوبَ الخطاب كثيرًا للتّحبّب والتقرّب للرّجُل، عسى أن يسمع لها ويُخرجها من هاويةٍ عُزلتِها، في مثل: أمنحُكَ، أرهقْتُكَ، أرجُمُكَ، بكَ، عليكَ، إليكَ، ملكتُني، خسرتُني، تغمرُني، روحُكَ، حُزنكَ، عذابكَ، روعتكَ.. كما استخدمت أسلوبَ المُتكلّمَ لتأكيد الذات، وتبيان أهمّيّة موقعِها في الأسرة والمجتمع في مثل: قلبي، حلمي، عقلي، حكمي، ضعفي، وحدتي، قصاصي، تهزّني، توقظني، بِحَرْفي، بَخوْفي، بِعَطْفي، تتركُني، تعفيني، تغمرني، ملكتني، احتلّني، خسرتُني..
*3. المحسِّنات البديعيَّة :
أ. الترادف:، كما في مثل: (قَد أَكونُ أَرهقتُكَ ؛/ بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قَلبِي).
*ثالثا– الوزن والموسيقى:
نظَمت الشّاعرةُ مقطوعتَها على نمطِ الشّعرِ النثّريّ، وموسيقاها تقفُ في منتصف الطريق بين النّثر والشّعر الموزون، فاستخدمت الموازنة بينَ الكلماتِ في سطورِها الشّعريّة؛ لخلق إيقاعٍ موسيقيٍّ: بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ..
أو النّسق الموسيقيّ في نهايةِ بعضِ السّطور:
لا تَترُكْني رَعشةً/ في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة
وهذا النّسقُ الواحدُ أشاعَ في النّصِّ إيقاعًا موسيقيًّا داخليًّا، كما لجأت إلى التّكرارِ حينًا كتكرارِها لـ (كيف)، إنّ هذا التّكرارَ للكلمة نفسِها (كيف) المتّفقة في شكلها وعددِ حروفِها، يكونُ توافقًا صوتيًّا، وهذا التّوافقُ الصّوتيُّ مِن شأنِهِ أن يُحدِثَ موسيقى داخليّة، بالإضافةِ إلى موسيقى البيتِ، وإنّ نغمة هذهِ الكلمات المتكرّرة تُبرزُ إيقاعَ النفسِ المُنفعلةِ والمُندهشة (10). 
فقد تخلّصتْ مِن الرّتابةِ في القافيةِ المُوحّدة، وتمكّنت الشاعرةُ بهذا في الانطلاق برحابةٍ أوسعَ في قاموسِها الشّعريّ؛ لتُحَمّلَهُ المضامينَ الكبيرة، وجاءت السّطورُ الشّعريّة حسبَ التّدفّق العاطفيّ للشّاعرة، ممّا ساهمَ في المحافظةِ على الوحدةِ العضويّةِ والموضوعيّةِ في النّصّ.
*رابعًا- شخصيّة الشاعرة: اتّسمت المعاني والأفكارُ والصّورُ الفنّيّة التي اتّكأتْ عليها الشّاعرةُ بالبساطةِ والرّقّةِ والعذوبة، لكنّها عميقةٌ في معانيها، واسعةٌ في مدلولاتِها، وشاعرتُنا مبدعةٌ بحَقٍّ امتطتْ صهوةَ الشّعرِ النثريِّ بجدارة؛ مُستعينة بالألفاظِ والتراكيبِ الموحِية؛ لأنّ وقْعَها على النّفس أبلغُ، إذ تبدو الشّاعرةُ مِن خلالِها جيّاشة المشاعرِ، رقيقة العاطفة، مُرهفة الإحساس، مُحِبّة لعهودِها، وفيّة لمبادئِها، رافضة للذلّ والمذلّة. 
وآخِرُ دعوانا أنّ الحمدَ لله ربّ العالمين.
من الكتاب الشّعريّ الأوّل- بسمة لوزيّة تتوهّج
الهوامش
(1) دراساتٌ نقديّة في النظريّة والتطبيق: محمّد مبارك ـ منشورات وزارة الإعلام ـ الجمهوريّة العراقيّة 1976 (ص 151).
(2) طبيعة الشّعر: أحمد محمّد العزب (ص 58).
(3) ثورة الشّعر الحديث: عبد الغفار مكّاوي ـ ص 32، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، القاهرة 1972.‏
(4). انتروبولوجية  الصورة والشعر العربيّ قبل الإسلام، قصي الحسين، 389، الأهليّة للنشر والتوزيع، ط1 ، 1993. 
(5). الصورة الشّعريّة، سي دي لويس، 21، ترجمة أحمد الجاني ورفاقه، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، العراق، دار الرشيد، 1982.
(6) مفهوم الشّعر في كتابات الشّعراء المُعاصرين: عزّ الدّين إسماعيل/ فصول مج 1 ع 4 1981 (ص 56).   
(7). مفهوم الشّعر عند روّاد الشّعر العربيّ الحُرّ، د. فالح علاق ص201، منشورات اتّحاد الكُتّاب العرب، دمشق 2005. 
(8) لسان العرب، ابن منظور ص11 ج9، دار الحديث، القاهرة، 2002.
(9). المرجع نفسه، ص233 ج6، دار الحديث، القاهرة، 2002.
(10). قراءة أسلوبيّة في الشّعر الجاهليّ، د. موسى ربابعة، دار جرير، عمان، 2010  ص 24.

CONVERSATION

0 comments: