الموارنة في ذكرى أبيهم مارون: إيمان وشهادة للحق/ الياس بجاني

ما أحوجنا نحن الموارنة إلى الوعي الإيماني والوحدة والتضامن في هذه الأيام الشديدة الوطأة، وما أحوجنا إلى نبذ الأحقاد والابتعاد عن الأنانية والأنا، ما أحوجنا رعاة وقادة وأفرادا أن نأخذ من أبينا ومؤسس كنيستنا القديس مارون الأمثولة، وهي ألا يعيش كل منا لنفسه، بل أن يفكّر في غيره من الناس ويبادر إلى مساعدتهم، وكم حولنا من أناس نكبتهم الأيام، فلم يقووا على مواجهة النكبة، وهم في اشد الحاجة إلى من يمد لهم يد العون لينهضوا من كبوتهم. ويستحيل على الوطن، أي وطن أن يقوم، أن لم يضافر أبناؤه جهودهم لينهضوه. وقد آن الأوان ليقلع كل منا عن أنانيته والتفكير في مصالحه الخاصة الضيقة من مواقع ومراكز وكراسي ونفوذ، اعتقاداً منه انه ينجو بنفسه منفرداً. والواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره، هو أننا في لبنان تحديداً نبحر مع باقي الشرائح الدينية والمذهبية جميعا في مركب واحد، إذا غرق غرقنا معاً وإذا نجونا نجونا معاً.
في التاسع من شهر شباط نحتفل نحن الموارنة كل سنة في لبنان وبلاد الانتشار بالذكرى السنوية لأبي كنيستنا وشفيعنا القديس مارون. إنها مناسبة عطرة وفرحة وهي عصارة ونتاج واستمرارية 1600 سنة من النضال والإيمان والصبر والعطاء من تاريخ أمتنا وشعبنا وكنيستنا المشرقية السريانية.
في هذه المناسبة دعونا نرفع الصلاة طالبين تقوية إيمان وصبر وعزيمة أفراد شعبنا ورعاتنا، فنعمل بجهد وجد وعزيمة من أجل أن يعم السلام وتسود المحبة كل أرجاء لبنان ودول المنطقة كافة.
دعونا نتعلم من تواضع وتفاني وصبر القديس مارون ونأخذ منه العبر والأمثلة.
مارون الناسك، مؤسس الكنيسة المارونية، عاش في القرن الرابع في جبال قورش شمال إنطاكية وهو ما زال حيّا في قلوبنا وعقولنا والوجدان نحن أبنائه الموارنة، واليوم نحتفل بذكراه ليس فقط في لبنان حيث مركزنا الديني والوطني بل في كل أنحاء العالم حيث تقيم جالياتنا وتنتشر.
يعلمنا المؤرخ والمفكر الماروني فؤاد أفرام البستاني بأن حياة الناسك مارون تميزت بالتقشف فكان يكتفي باليسير مما يحتاج إليه الناس في دنياهم من قليل الطعام والشراب واللباس، ولهذا سلك طرق التقوى والإيمان والجهاد وقد حرم نفسه ما كانت تشتهيه، وهذه هي الطرق الوعرة التي سار عليها الأبرار والقديسون كافة. كان محور حياته مركزا على الصلاة والتعبد والتأمل والإماتة. لذلك اعتزل الدنيا وأقام تحت خيمة من شعر تقيه حر الصيف وبرد الشتاء.

كان الناس يأتون إليه ليسألوه صلاته وبركته، فيصرف أفكارهم عنه ليوجهها إلى الله مصدر كل خير وينبوع كل صلاح، وهذا هو نمط الأبرار فلا يجتذبون الناس إليهم ليطروا صفاتهم الحسنة، ويمتدحوا أعمالهم الباهرة، بل ليحملوهم على الإقبال على الله.
لقد قاوم وتحدى مغريات العالم وأباطيله فشاع صيت قداسته، فكتب إليه القديس يوحنا فم الذهب من منفاه يقول له: "إن روابط المحبة والمعزة التي تشدني إليك تجعلني أراك كأنك حاضر أمامي, وفي الواقع إن ما تتميز به نظرة المحبة، إنما هو اجتيازها المسافات ومرور السنوات لا يضعفها وددت لو أني راسلتك بتواتر لكن المسافات شاسعة والمسافرين قلائل, لكني أريد أن تتأكد أني لا أفتأ أذكرك، لأنك تحتل في قلبي مركزا رفيعا فلا تبخل علي بإخبارك، والأنباء عن صحتك تفرحني جدا على الرغم من بعد الشقة, وتعزيني في منفاي ووحدتي وتسر نفسي سرورا كبيرا بمعرفتي انك في صحة جيدة, واعز طلب عندي أن تصلي من اجلي هكذا يخاطب القديسون القديسين، فيما هم يتراسلون".
طبعت روحانية أبينا القديس وشهادته كنيستنا المارونية فتبنت باسمه ونبتت مثل السنبلة من حبة القمح. إنها كنيسة أمة وقضية ورسالة، وقد احتضنت شعبها المؤمن منذ 1600 سنة وشهدت ولا تزال لروحانية أبيها في الوحدة والشركة على تقليد إنطاكيا، وهي كانت ولا تزال وسوف تبقى منفتحة على الشعوب والحوار ومتمسكة بتراثها السرياني المشرقي العريق وبهويتها المميزة.
ونحن نستذكر حياة وصفات وعطاءات وطهارة أبينا مارون لا بد وأن نسأل، هل يعقل أن يصل حال التخلي والجحود عند بعض القيادات المارونية الروحية والزمنية في لبنان إلى حد الكفر بكل ما عمل من أجله مؤسس كنيستنا؟
أيعقل أن يكون هؤلاء فعلاً من أتباع كنسية هذا القديس الكبير؟ إنه بالفعل زمن أغبر هذا الذي وصلنا إليه ويصح بهؤلاء القادة والرعاة قول النبي اشعيا: "هذا الشعب يكرّمني بشفتيه، أما قلبه فبعيد عني كثيراً، فباطلاً يعبدونني، وهم يعلمّون تعاليم البشر".
نسأل الرب أن يؤتينا جميعاً أن نتفهم تعاليمه كما تفهمها القديس مارون، وان نعمل بوحيها، فنرص الصفوف، ونوحد الكلمة مع جميع إخواننا اللبنانيين في الوطن الأم وبلاد الانتشار لنجهد متكاتفين بمحبة وتجرد على إعادة وطن الأرز والقداسة إلى سابق عهده في البحبوحة والازدهار في ظل سلام دائم وعادل وشامل.
نسأل الرب بشفاعة أبينا مارون أن يقوي إيمان وإدراك رعاتنا وقادتنا وأفراد شعبنا ويمدهم بنعمتي الإيمان والرجاء حتى لا ترهبهم ضغوط أو شدائد، وحتى لا تضعف ثقتهم بربهم فيغريهم موقع أو ثروة أو يخيفهم مجرم أو إرهابي.
نهنئ أهلنا الموارنة وعموم اللبنانيين بهذا العيد، ونصلي معهم لله لينعم علينا وعليهم بنعم الاقتداء بفضائل صاحب العيد وبكل ما اتصف به من إيمان وتجرد عن أباطيل الدنيا ومحبة للناس.
ونخص في صلاتنا اليوم من أجل التوبة والرجوع إلى حظائر الحقيقة والحق قيادات مارونية سياسية وروحية شاردة وكافرة كان بعضها ذاق مرارة العزلة والنفي والإهانة، إلا أنه لم يتعظ يوم تحرر الوطن بفضل قرابين أبناء وطننا الأبرار وتضحياتهم، فعاد هذا البعض إلى ممارسة المسؤوليات بطروادية ونرجسية مركزاً وجهته على مقتنيات الأرض الترابية.
لهؤلاء نصلي لعلهم يرتدون إلى الطريق القويم، ويخافون الله في كل ما يقوله ويفعلوه وإلا فحسابهم يوم الحساب الذي لا بد آت حيث سيكون البكاء وصريف والقصاص الإلهي على يد رب الانتقام: "لا تجازوا أحدا عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس. إن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس. لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكانا للغضب. لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب".(رومية 12)
ربي نجينا من الآتي الأعظم فقد كفر من يُفترض بهم أنهم يحملون بشارتك وشردوا عن طرق الحق ووقعوا في تجارب إبليس وامسحوا مسحاء دجالين يقودون الناس إلى الخطيئة والزندقة. ربي احمي لبنان واللبنانيين من هؤلاء الذين ما قبلوا إلا أن يبقوا أسرى للإنسان العتيق، إنسان الغرائز والنزوات. ربي أنت كفيل بهم لأنك أنت رب الانتقام
في النهاية إن الظلم لا يدوم لأن الله يمهل لكنه لا يُهمل، وهو باستمرار إلى جانب كل مناضل حر من أجل السلام ومع كل مظلوم ومضطهد.

CONVERSATION

0 comments: