أنت عربي، أنت خطير/ جواد بولس

ليس كعادتي، في ذلك الصباح توسّمت خيرًا. دخلت بناية "المحكمة العليا الإسرائيلية" وبي شوق المحارب للغبار. في الفضاء صدى للطقطقة وإيقاع هرولة رعاة تاهوا في فجر تلك الفاجعة.
كل شيء بدا طبيعيًا في طريقي إلى بناية المحكمة الجاثمة كظل سطوة. في إحدى الزوايا خيّل لي أنّني سمعت قهقهة البارون روتشيلد ومعه من قنّنوا شريعة النشوة والقهر. الخديعة سيّدة، فلا دم دير ياسين يقض حلمك ولا ما كان قسطلًا، أعشاشًا لفراخ النسور والبواشق. هي أنّات العروس خجولةً في الظل تختبئ وما زالت تخبئ في صدرها حليبًا ليوسف وأخوته.
"لفتا"، لم تكن صغيرة أخواتها لكنّها مثلهن شهدت كيف كان قيصر يهيّئ مراسم الاكتتاب وجداول الدم. "لفتا"، في كل مرّة أحيط بخاصرتها لأصل إلى ميداني، حيث احترفت الخسارة في محاكم بيلاطس، أحس بوخزة ولا أشتاق لنوح ولا لحكمة الخَلّ على الصليب.
أدخل القاعة. هناك على الدكّة العليا ثلاثة أكوام من لحم. أنتبه أن واحدًا منهم اجتهد ليريني أنّه لاحظ دخولي وتعمّد أن ينقل إلي إشارة خفيّة أنّه ليس كالآخرين. كأنّه ما زال يحترم حضوري. الثاني، ذلك الذي يتوسّط الدكّة، يوهمني أنّه جدي وغارق في مآسي الساعة وقضايا اليوم، ينظر مستقيمًا من عليائه فتضيع نظرته في الفضاء. أدقّق في وجهه فلا ألمس فيه خطوط طول ولا خطوط عرض، شفته السفلى مقبوضة بنصف عضة وأختها العليا تحتضنها بحزم. عيناه غائرتان لم أتحقّق ما كان لونهما. أتفرّس فيه أكثر فأجده كمن يشمّ رائحة كريهة أجهدته. على هيئته هذه يبقى منذ ساعة الصباح إلى ساعة ما يحسبونه هزيمتي. ثالثهم لا يخفي ما تحت العباءة وهو مباشر كخنجر. يشعرني، منذ النظرة الأولى، أنّني ضيف ثقيلٌ عليهم. مهما حاولت أن أتجمّل أو أترحّم أو أتظلّم لن يسعفني بكاء أو سباب أو صراخ، فهو مقتنع أنّه ابن لمن وطئ جبل سيناء، وسليلُ من حمل الألواح وحامي كلام الرب ودستوره. هو الفضيلة في زي آدمي ونحن أولاد هاجر أو أحفاد من خان الأمانة وسرق الديانة والعهد.
الحكاية أنّهم ثلاثة يتبدّلون ولا يتغيّرون ولا يغيّرون. آتيهم بحق وحقيقة فيبدّلون الحق بالباطل والحقيقة يقلبونها عجينة وعجيبة. في كل كرّة أتركهم مع أكثر من قلق، كي ألملم احتياطيَّ رماحي وذخيرة من وجع لأعود بصرخة أخرى وإصرار عروس ستنتظرني بخاصرتها وشهادة وفاتها.
ما أن ينادي المنادي باسم قضيتي، أقف قارئًا بعض أبياتٍ لشاعر يهودي يقرّ ويعلن: "أكثر ما يبرر الوحدة/ واليأس الكبير/ واحتمال العبء الغريب/ الوحدة الكبيرة/ اليأس الكبير/ هي الحقيقة البسيطة القاطعة/ لا مكان لنا عمليًا نذهب إليه". أستطرد وأوجه كلامي لهم: "هل حقًا لم يعد أمامنا ملجأ ومفر؟ هكذا يا سادتي تساءل شاعركم دافيد أفيدان فهل كان صادقًا ومحقًا؟". بدعابة امتدح أحدهم الشاعر والقصيدة واستطرد مبادرًا ومتسائلًا إن كنت أصر على المضي في التماسي بعدما قرأت رد نيابة الدولة وفيه التزامها بتمديد توقيف الفلسطيني "نايف رجوب" فقط لشهرين إضافيين، بعدهما تتعهد الدولة بالإفراج عنه. بإصرار مستفَزّ أجبته: طبعًا وأطالبكم بسماع ادّعاءاتي. ثمانين شهرًا يقضي نايف رجوب في غياهب سجونكم. يدفع فاتورة الحلم والخديعة. لم يقترف ذنبًا. جريمته انه انتخب من شعبه نائبًا في برلمان أعدم مع لحظة ولادته. واختير وزيرًا لأوقاف فلسطين بحكومة اغتالها سرابها. هو ليس كمراياكم ولا كالحلم فهو الحقيقة في التراب وهو ابن لجبال ابراهيم وجار للسماء والمطر. خمسون شهرًا وراء قضبانكم، قضبان القمع والقهر ثمن مشاركته بلعبة الأمم وقمارها الخاسر. وبعدها ثلاثون يقضيها بلا تهمة ولا حسيب أو رقيب. "معتقل إداري" لا يعرف بأي ذنب تئدون حريته وتعاقبون عائلة بجحيم فراق عزيزها الحامي. جئتكم لتطلقوا سراحه اليوم. كفى عبثًا وكفى ظلمًا. هل سيكون هذا البيت هذه المرة ملاذًا وخيمة للعدل. لا تحجبوا الصبح عن ليله فسواد لياليه سوادكم ووجعه سجلّكم الناجز في ذاكرة التاريخ التي لا تنسى.
أباغتهم بحرقة وصوت يراوح على حدود الوقاحة "بأي منطق ستحكمون؟ فاليوم نايف رجل خطير وبعد شهرين لن يكون؟! أمام القضبان كان خطيرًا فسجن. وراء القضبان بقي خطيرًا فسجن! فإلى أين يذهب؟ ربما عليه أن يتبخر أو يتبعثر" أكمل خطبتي فرحًا. شعرت للحظة أنني هزمتهم. سمعت نبضهم يتراجع، ينخفض يتلاشى كناي سدت ثقوبها.
كان المنطق فائضًا فلم يسكتوني. كان الحق ساطعًا فوقع عليهم كالبرق. حاولوا الهرب. كان الظلم كالصخر فأغلق عليهم كل شعبة ومسرب. بجديّة أبلغوني أنهم لن يصدروا قرارهم في ذلك اليوم الذي توسّمت فيه خيرًا منذ الصباح، القضية تستوجب التفكير بعمق وبمسؤولية، قالوا. شكرتهم ولم أنتبه انّهم كانوا جديين لدرجة العجيبة. بعد يومين أصدروا قرارهم الذي رد التماسي وأبقى "نايف الرجوب" في أسرهم فأمن وسلامة الجمهور يستدعيان ذلك، إنّه عربي خطير ومكانه وراء قضبان القهر. أضافوا، أنهم سجلوا ما قالته الدولة: فنايف، على ما يبدو، لن يكون خطيرًا في أيار المقبل. في أيار سيكون الصباح جوريًا كلون الدم وعندها سيتيح السلطان انبلاج الفجر وسيضم الأب ابنه وسيشتعل الدوري في السماء وسيكون غناء وستكون صلاة، كتلك التي سمعتها في ذلك الصباح، الذي توسّمت فيه خيرًا.
قرأت عسفهم وتذكرت أنني كنت أمام ثلاثة أكوام من اللحم وتذكرت ما قالته لي الريح في الصباح، عند ذلك المنحنى: "ما في حدا منكن إلو وادي/ قولولي: مْنين بدّو يكون في إلكُن صدى؟".

CONVERSATION

0 comments: